في العقد الأخير، بات تجسيد مختلف فئات المجتمع في الأعمال الفنية أمراً مطلوباً، في ظل ازدهار ونشاط الحركات المدنية المطالبة بتمثيل أكثر عدلاً على الشاشة للنساء، والمثليين، وأصحاب البشرة السوداء، وغيرها من الإثنيات والأعراق. ووسط هذا الانفتاح على الفئات اللي بقيت مهمشة لسنوات، لا يزال الأشخاص ذوو الإعاقة يجدون صعوبة في الوصول إلى بطولة الأعمال الدرامية أو السينمائية.
يصف جاك ثورن، مبتكر مسلسل Best Interests، التلفزيون بأنّه صندوقٌ لكسب التعاطف، إلّا أنه خذل ويخذل الأشخاص ذوي الإعاقة لتكون التنوّع المنسيّ. ويستطرد ثورن مؤكدًّا ضرورة وجود "كوتا" محددة مسبقًا لأشخاص ذوي إعاقة في منتجات الترفيه البصرية. تعضد البيانات الرقمية أطروحة المخرج والكاتب البريطاني؛ لدينا ثلاث جوائز أوسكار فقط ذهبت لممثلَين وممثلة من الأشخاص ذوي الإعاقة عبر التاريخ.
يناقش Best Interests من إنتاج BBC حالة مارني، الفتاةِ المصابة بمرض الحثل العضلي الخُلقي Congenital Muscular Dystrophy، وصراع والديها مع الرعاية الصحيّة، التي تقترح إيقاف العلاج بعد دخولها في غيبوبة نتيجة مضاعفات مرضها المزمن.
يقدّم المسلسل عبر حلقاته الأربع رؤيةً وافيةً للنظام الصحّي والقضائي، ويلتقط بنباهةٍ تفاصيل العلاقات الإنسانية ضمن الأسرة والمحيط، وبمقاديرَ متقنةٍ ينجو المسلسل من النحيب أو الجمود الذي يلفّ القضايا والمرافعات. إلى جانب ذلك، يحققّ المقاربة المقترحة بعدم إيلاء أدوار الشخصيات ذات الإعاقة لمن هم ليسوا كذلك، ويضم فريق كتابته ممثلين عن هذه الفئة.
كِلا الوالدين يبرّر موقفه بالحب، منذ البداية نشهد الانقسام بينهما؛ الأب الذي باتت رحلات الإسعاف جزءًا من روتينه وإحدى أسباب فتح شهيّته أثناء معالجة ابنته الصغرى. بينما تقترب الأم من صفة المحارِبة؛ هي الأكثر حرصًأ ومتابعةً، تتصدّى لمواقف الأطبّاء ولا يخفى رفضها للأمر الواقع، بينما يرزح الأب متقبّلًا ما يُقال له. في خلفيّة هذا كلّه نتلمّس مسار الابنة الكبرى التي تمضي سنيّ مراهقتها من دون اهتمامٍ ظاهر من الأبوين، وتوفّرِ المسكّنات الشديدة ضمن بيئة المنزل.
تصل مارني إلى نقطة اللاعودة وفقًا للطبيبة التي تتابع حالتها لسنوات. يوضّح الفريق الطبّي للأسرة أنها رغم عدم وعيها إلّا أنّها تتعرض للألم المبرح، وأيُّ محاولاتٍ العلاج لن تكون ذات تأثيرٍ على سويّة حياتها. يكشف هذا الطرح مكامن الخلل في علاقة الزوجين، ويقود لتباعدهما.
يبتّ القضاء في حالات عدم توافق الأسرة والجهاز الطبّي حول إنهاء العلاج بحسب القوانين البريطانية، تخرج القضيّة عن ردهات المستشفيات إلى الفضاء العام، لتكثر الأطراف ذات الشأن، ويرتفع الصخب المتعلّق بحالة مارني. يجد الزوجان آندرو ونيكي مع ابنتهما الأخرى كيتي أنفسهم مادّةً للاهتمام الإعلامي وعرضةً للقياس القضائي حول أفعالهم، وتلاقي الطبيبة سامانثا ذات الضغوط في مساءلة منهجياتها العلاجية.
يوّفق المسلسل في صياغة أفعال الشخصيّات من دون إدانةٍ لأي طرف، ويحافظ على الحياديّة؛ بهذا يضع الجمهور أمام الخيار الأخلاقي تبعًا لكل فكرٍ مبتنّى وما نعتبره الخيار المنطقيّ. بكلّ حرصٍ تُناقش تفاصيل القتل الرحيم عن شخصيّة ولّدت خلال ظهورها حميميةً وألفةً مع تجربة المشاهدة، إذ تمثّل مشاهد مارني حالة الراحة لحلقات المسلسل، فهي الخالية من الصراع والأكثر دفئًا، يفيد هذا العامل أيضًا لتبرير التنقلات الزمنية في أسلوب العرض.
منذ اللحظات الأولى للمسلسل، ترِد جملةٌ تتعلقّ بمشقّة الحصول على الرعاية الصحيّة للأشخاص ذوي الإعاقة أثناء وباء كوفيد-19، تعود النقطة للنقاش أثناء استجواب الطبيبة، في صدىً لحالات التمييز المثبتة إزاء الأشخاص ذوي الإعاقة وكبار السنّ؛ وهي الفئات الأكثر وفاةً خلال السنة الأولى لتفشّي الوباء في بريطانيا.
إثر الانتقال للحيّز العام، تنحو النقاشات للتساؤل عن معاني الحياة والموت، وتحافظ الشخصيّات الرئيسية على ابتعادها من نقاش المفاهيم وتلتصق بالحياة الفردية للابنة. تتلقى الأم دعمًا من جماعةٍ كنسيّة تعارض القتل الرحيم مستقدمين طبيبًا برأيٍّ مخالف لإنهاء العلاج، ويوكل النظام الصحّي مستشارًا من الأشخاص ذوي الإعاقة للحديث مع الأسرة. تنزع المواجهة بين التيارات المتعددّة حول القضيّة التميّز من الفرد. فعلى النقيض من موقف أفراد الأسرة باختلاف آرائهم، يدور الحديث بشكل أساسي عن حياة مارني، وليس عن قدسيّة الحياة.
هو صراعٌ على أمل علاجها، لا مدى التطوّر في صناعة العقاقير والأدوية بينما يتملّكها الألم. يتضح ذلك عند الأب العاجز عن الاستماع للحكم، فهو ينأى بنفسه عن الاختيار، لا يريد استمرار العلاج لكنّه عاجزٌ عن الدفاع أمام الرأي التشخيصيّ. ما يهمه إيقاف الألم فقط. تستذكر الوالدة ما قيل للعائلة خلال المسيرة العلاجية للطفلة التي تجاوزت المأمول من وضعها الصحي، في كلّ مرّة تغلّبت مارني على الصعاب، واستمرت بالعيش بعكس ما تقترحه الاحتمالات. وهو ما يشكّل صورة أخرى للنضال أمام جهازٍ طبّي يوقن بحتمية الغلبة.
يتجه الحدث لنهاية الحياة بعينين مفتوحتين، في مشهديّةٍ تُظهر التباين بين الجانب التقني للفناء لدى للكيانات والجهات الرسمية، ومنظور الأفراد لأحبّتهم وذويهم كجوهر للحياة قادرٍ على العطاء، بأداءٍ يحبس الأنفاس من مايكل شين وشارون هوغار بدور الزوجين المكلومين.