Baby Reindeer... المأساة حين تتحوّل إلى ترفيه ومال

20 مايو 2024
يتركنا المسلسل أمام أسئلة عن الصدمة الناتجة من الترصُّد والملاحقة (نتفليكس)
+ الخط -
اظهر الملخص
- مسلسل Baby Reindeer على نتفليكس يستكشف قصة الكوميدي دوني ومعاناته مع مترصدة، متناولًا موضوعات الاستغلال والعنف والصدمات النفسية في صناعة الترفيه، ويثير نقاشات حول التحرش والصدمة النفسية.
- الإعلان عن أن القصة مستوحاة من أحداث حقيقية أثار فضول الجمهور وجدلًا واسعًا، خاصة بعد كشف هوية مارثا الحقيقية ومقابلتها المثيرة للجدل مع بيرس مورغان، مما يبرز قوة الفضول العام وتأثيره.
- يبرز الدافع المالي كعنصر مشترك بين جميع الأطراف المعنية، من نتفليكس إلى الشخصيات الرئيسية، مما يطرح تساؤلات حول أولويات المجتمع بين الحقيقة والمال ويشير إلى الطبيعة الرأسمالية للإعلام والترفيه.

لم تمضِ أيام على بثّ مسلسل Baby Reindeer حتى تربّع على قائمة الأكثر مشاهدة على منصة نتفليكس. حكاية الكوميدي الفاشل دوني (ريتشارد غاد)، الذي يقع في أسر مترصدة مدانة تُدعى مارثا سكوت (جيسيكا غانينغ). تحول Baby Reindeer إلى ظاهرة عالميّة، تكشف لنا طبقات الاستغلال والعنف والصدمات النفسيّة، سواء في صناعة الترفيه، أو على المستوى الإنسانيّ وطبيعة "الأمراض النفسية" التي قد يعانيها شخص مترصد ومهووس.

Baby Reindeer وقدرة النساء على التحرش

ترك Baby Reindeer كثيرين أمام أسئلة عن قدرة المرأة على "التحرش"، وطبيعة الصدمة النفسية التي تتركها لدى من يخضع للترصد والتحرش. والأهم الثمن الذي يمكن أن يدفعه أحدهم كي ينال فرصة ويصل إلى الشهرة الموعودة، تلك التي يحلم بها غاد، ولم يتمكن من الوصول إليها إلا بعدما وقف "عارياً" على الخشبة ليبوح بكلّ ما يمرّ به، أي تحويل المأساة إلى ترفيه ثم مال.
الأهم من كل ذلك، هو العبارة التي تظهر في بداية كل حلقة، مشيرةً إلى أن هذه قصة حقيقة. وبالطبع، تحرّك الفضول لدى المشاهدين، خصوصاً أن الممثل البطل، يحكي قصته الشخصية، ولم يكن صعباً على رواد الإنترنت، أولئك الذين كشفوا قاتل القطط في Don’t F*** with cats، أن يحددوا هوية مارثا الحقيقية؛ فيونا هارفي، التي لم تسكت، وأجرت بداية مقابلة صحافية من دون ذكر اسمها، تتحدث فيها عن كذب "الحكاية" التي قدمتها "نتفليكس".
على رغم ادّعاء "نتفليكس" أنها عملت على إخفاء هوية الشخصيات الحقيقية، لكن لا يغيب عن المنصة، التي ساهمت في ترسيخ "عدالة الجمهور"، أن المشاهدين لن يفكروا مرتين قبل قلب كلّ "الإنترنت" رأساً على عقب، لاكتشاف الشخصية الحقيقية.
وهذا ما حصل، تحولت مارثا إلى هدف الفضوليين والكارهين الذين كشفوا اسمها الحقيقي، وتحول الأمر إلى "ترِند" لم يتأخر بيرس مورغان عن استغلاله، واستقبل الشخصية الحقيقية، في مقابلة أقل ما يمكن القول عنها أنها مثيرة للقشعريرة، إذ أنكرت فيونا هارفي كل ما حدث في المسلسل من ترصد وتحرش وإدانة قضائيّة، وهددت باللجوء إلى القضاء لتحصيل حقها المادي، بل هاجمت مورغان نفسه لاحقاً، مُطالبةً إياه بأن يدفع لها أكثر من مليون جنيه إسترليني، لكونه يحصل على المال من المشاهدات على اللقاء الذي أجراه معها.

سلطة الفضول

لا نعلم كيف تجاهلت "نتفليكس" سلطة الفضول لدى الجمهور، خصوصاً أننا أمام قصة حقيقية بطلها مرّ في الأحداث نفسها. هل نحن أمام تقصير أم رغبة في دفع الحكاية المتخيلة نحو استبدال الحقيقية؟ تلك التي إلى الآن لا نعرفها، لا نعرف من يكذب ومن يقول الحقيقة، خصوصاً أن الطرفين (فيونا و"نتفليكس") لم يقدّما دلائل، سواء كنا نتحدث عن آلاف الرسائل الإلكترونية التي أرسلتها فيونا، أو التاريخ الجنائي لها. نحن أمام مساحة تهيمن فيها المخيلة على الحقيقة.


هذه المفارقة بين المخيلة التي تستبدل الحقيقة، أو تحويل الحياة الشخصية إلى عالم الشاشة، قدمته "نتفليكس" في الحلقة الأولى من الموسم السادس من مسلسل Black Mirror. ففي الحلقة المعنونة بـ"جوان المريعة"، تكتشف جوان أن حياتها تحولت إلى مسلسل يبثّ على منصة تشبه "نتفليكس"، لتتحول إلى محط  كراهية "الجميع". وهذا ربما ما حصل مع فيونا التي وجدت نفسها فجأةً ضمن مسلسل على الشاشة، من دون أن تعلم. ولا يهمّ هنا التفريق بين الحقيقة والكذب، لكن أليست هذه بحدّ ذاتها أزمة، بل انتهاكاً؟

الاعتراف والعلاج بالتخييل

يندرج Baby Reindeer ربما ضمن نظام الاعترافات عبر العمل الفنيّ، فريتشارد غاد، الممثل الكوميدي، قرّر تحويل مأساته، بل بصورة أدق، نسخته الخاصة من الحكاية، إلى عمل فني يحمل خصائص علاجيّة بالنسبة إليه على الأقل. والمفارقة هنا عدم استشارة الشخص الآخر، نحن أمام اتهام علني-فنيّ، لا يكسبه شرعيته سوى "شهادة الضحيّة"، التي لم نستمع إليها في المسلسل.
هذا ما حرك بيرس مورغان ليُنجز مجموعة الحلقات استقبل فيها عدداً من المعلقين والخبراء لمناقشة الحالة. نحن أمام كلام ضحيتين: الأولى ضحية "نتفليكس" نفسها متمثّلة بفيونا، والآخر ضحية وظّف "نتفليكس" لسرد حكايته. ولا يمكن هنا إنكار الأبعاد الجندريّة في قضايا الاتهام بالتحرش الجنسي، الأمر الذي يشكّل مادة دسمة لمورغان؛ فنحن أمام شهادتين متناقضتين، من نصدقّ؟ وألا يعني هذا تشكيكاً في كل كلام الضحايا؟
لا يمكننا تجاهل استفادة بيرس مورغان من الترند، بل صناعته حتى، وهذا الاتهام الذي وجهته إليه أحدى ضيفاته التي تناقش الحكاية. نحن أمام قضية رأي عام، وصلت إلى البرلمان البريطاني، الذي حذر "نتفليكس" من انتهاك الخصوصيّة، بالتالي نحن أمام حالة فريدة من نوعها، إذ لدينا "حكاية" قدمتها شركة الإنتاج وشخصياتها المتخيلة، أمام "حكاية" مواطنة تقف وراءها مؤسسة رسمية خاضعة للدولة، وغياب أدلة لدى الطرفين، يتركنا معلقين في مرحلة اللاحسم هذه.

نحن أمام حكاية تكبر وتأخذ أبعاداً متعددة، التقفتها وسائل الإعلام لتقتات عليها. لكن هناك سؤال لم يطرحه أحد: أليس من المفترض أن تنتبه "نتفليكس"، إن كانت الحكاية حقيقية، إلى أن ريتشارد غاد تعرّض لعنف شديد يشكّك في حكايته؟ وأليس من المفترض أيضاً أن تخضع فيونا، سواء كانت حكايتها حقيقية أو مفبركة، لتساؤلات عن صحتها النفسية؟
ما يحصل الآن، مجرد إلقاء للتهم والتشخيصات الطبية بصورة شعبية، واتهامات تطاول الاثنين حول "الكذب المرضي" و"السايكوباثية" و"اضطراب ما بعد الصدمة". كلها تشخيصات يلقيها رواد وسائل التواصل الاجتماعي وبيرس مورغان. نحن إذن أمام ماكينة الإعلام، وهي تقوم بعملها على أكمل وجه؛ أي استنزاف التجربة الإنسانية لأجل النقرات والمشاهدات.

المال ثم المال ثم المال

هناك عنصر مشترك بين جميع الأطراف الفاعلة في "الحكاية"، ألا وهو المال: "نتفليكس" تربح، وريتشارد غاد يربح، وبيرس مورغان يربح، وفيونا تريد الربح. نحن هنا أمام واحد من أرقى أشكال الرأسماليّة؛ الاستثمار في حكاية الضحية (مهما كانت) في سبيل الربح ومراكمة الأموال. الكل يريد ثمن الحكاية، حتى فيونا نفسها تريد أن تقاضي "نتفليكس" وريتشارد غاد لأجل المال، ليس بسبب تشويه سمعتها. هكذا، يبقى السؤال في النهاية: ما الأهم في عالمنا؟ الحقيقة، أم المال؟

المساهمون