أحيا الروس اليوم الخميس ذكرى مقتل الصحافية الاستقصائية آنا بوليتكوفسكايا قبل 15 عاماً، يوم عيد ميلاد الرئيس فلاديمير بوتين، فيما استنكر زملاؤها استفادة مدبري اغتيالها الذين لم تحدد هوياتهم حتى الآن من قانون التقادم الذي يسقط العقوبات الجنائية.
قُتلت بوليتكوفسكايا، وهي من أشد المنتقدين لبوتين وحروب الكرملين في الشيشان، بالرصاص، في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2006، في مدخل مبنى شقتها وسط موسكو. وكانت تبلغ 48 عاماً.
وتسبب مقتل هذه الصحافية الاستقصائية التي عملت في صحيفة "نوفايا غازيتا" المستقلة في روسيا، وقدمت مساهمات في منشورات غربية من بينها "ذا غارديان" البريطانية، يوم عيد ميلاد بوتين، صدمة في أنحاء العالم كافة. لكن بعد كل ذلك الوقت، لم يحدد المحققون بعد من كان وراء عملية القتل المأجورة على ما يبدو.
وقال ابنها إيليا بوليتكوفسكي، لوكالة "فرانس برس" الخميس: "ليست لدي ولا لدى (نوفايا غازيتا) معلومات واضحة عن الجهة التي أعطت الأمر" لتنفيذ عملية القتل.
وعشية ذكرى مقتلها، قالت "نوفايا غازيتا" إن السلطات ليست لديها مصلحة في متابعة التحقيق لأسباب سياسية. وكتبت الصحيفة "بعد 15 عاماً من مقتل صحافيتنا، انتهى نظام مرور الزمن. بموجب القانون لا يمكن إلا لمحكمة أن تمدده. وإلا فإن المدبرين سيفلتون من العقاب".
ويأتي إحياء الذكرى السنوية لمقتل بوليتكوفسكايا، في مكاتب تحرير "نوفايا غازيتا" في موسكو، وسط حملة قمع غير مسبوقة على المعارضة ووسائل الإعلام المستقلة، مع سجن السلطات السياسي المعارض البارز أليكسي نافالني.
وقال بوليتكوفسكي، في غرفة تحرير "نوفايا غازيتا"، حيث حوّل مكتب والدته متحفاً صغيراً في ذكراها وزاره دبلوماسيون أجانب، الخميس: "كتبت في تلك الحقبة عما يحدث اليوم. اتضح أن الكثير مما كتبته كان نبوءة".
وقال الناطق باسم بوتين، ديمتري بيسكوف، الخميس إنه "من الصعب جداً" التحقيق في جرائم القتل المأجورة. وصرّح بيسكوف للصحافيين: "نريد بالطبع معاقبة مدبّري هذه الجريمة، من أمر بها ومن نفذها. ورداً على سؤال عما إذا كان الكرملين سيؤيد تمديد مهلة التقادم في جريمة قتل بوليتكوفسكايا، قال بيسكوف إن "حتمية العقوبة" على مثل هذه الجرائم أمر أساسي.
عام 2014، حكمت محكمة على رجلين بالسجن مدى الحياة بتهمة قتل بوليتكوفسكايا، وأصدرت أحكاماً بالسجن لمدد طويلة على ثلاثة آخرين متورطين في العملية. وعام 2017، توفي لوم علي غايتوكاييف، وهو شيشاني دين بتنظيم عملية القتل، في معسكر عقابي كان يمضي فيه عقوبة بالسجن مدى الحياة.
وأجرى موظفو صحيفة "نوفايا غازيتا" تحقيقهم الخاص، ونشروا الخميس فيلماً مدته ساعتان على "يوتيوب"، يشرح بالتفصيل التحقيق الذي أجروه واستغرق سنوات.
عام 2018، دانت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان روسيا، لعدم اتخاذها خطوات مناسبة للعثور على الأشخاص الذين أمروا بقتل بوليتكوفسكايا. وخلص قضاة إلى أن المحققين الروس كان عليهم أن يبحثوا في احتمالات أن تكون أوامر القتل قد صدرت عن "عملاء في جهاز الاستخبارات الروسية المحلية أو عن الإدارة في جمهورية الشيشان".
وقالت بعثة الاتحاد الأوروبي إلى روسيا الخميس: "ندعو الحكومة الروسية إلى ضمان تقديم المسؤولين عن اغتيال آنا بوليتكوفسكايا إلى العدالة، من خلال عملية قضائية مفتوحة وشفافة". وفي بيان، قال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إن بوليتكوفسكايا قُتلت "لعملها الشجاع في تسليط الضوء على انتهاكات حقوق الإنسان وسط الصراع في الشيشان، ولإعطاء صوت لضحاياه". وحث بلينكن على "تحديد هوية المتورطين كلهم في قتلها ومحاسبتهم"، وأشار إلى أن "استمرار الإفلات من العقاب لأولئك الذين أمروا بقتل بوليتكوفسكايا يقوض حرية التعبير وحرية الصحافة وحقوق الإنسان في روسيا".
فازت بوليتكوفسكايا بجوائز عدة عن تقارير أعدتها وكتب أنجزتها، في حين دشنت جوائز باسمها.
و"نوفايا غازيتا" التي شارك في تأسيسها الزعيم السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشوف، في 1993، واحدة من وسائل الإعلام القليلة المتبقية التي تنتقد بوتين الذي بلغ 69 عاماً اليوم الخميس. لكن الصحيفة دفعت ثمناً باهظاً مقابل ذلك. فمنذ عام 2000، قتل ستة من صحافييها بسبب تحقيقاتهم وكتاباتهم، ويمكن مشاهدة صورهم بالأبيض والأسود معلقة جنباً إلى جنب في مكاتب الصحيفة في العاصمة موسكو.
في 15 مارس/ آذار الماضي، لم يكن لدى فريق تحرير الصحيفة الروسية المعارضة شك في أنهم تعرضوا لـ"هجوم كيميائي"، بعدما أظهرت لقطات كاميرا المراقبة رجلاً في زي عامل توصيل على دراجة، أمام مدخل الصحيفة، قبل أن يرش مادة سامة في الهواء. أصيب موظفون حينها بتوعك بعدها، واستغرق الأمر أياماً من التنظيف للتخلص من الرائحة. حتى إن الأمر تطلب تغيير جزء من كسوة الرصيف الخارجي.
وقال حينها رئيس تحرير "نوفايا غازيتا" ديمتري موراتوف، لوكالة "فرانس برس": "نحن نتحدث عن استخدام مادة سامة غير مميتة من النوع العسكري، لتوجيه تحذير لموظفي الصحيفة أو للانتقام منهم". وأضاف موراتوف آسفاً: "ليس سراً أنه عندما قُتلت آنا بوليتكوفسكايا أردت إغلاق الصحيفة... هذه الصحيفة خطرة على حياة الناس (...) عارض الصحافيون الأمر بشكل قاطع. قالوا إننا سنسيء لذكرى آنا بوليتكوفسكايا إذا أغلقنا. لقد أقنعوني". موراتوف كان من بين مؤسسي الصحيفة عام 1993، عندما هبت رياح الحرية على الصحافة الروسية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
عام 2018، تلقت الصحيفة طرداً فريداً من نوعه: إكليل جنازة على رأس كبش مقطوع، وملاحظة موجهة إلى دينيس كوروتكوف الذي يكتب بشكل خاص عن أنشطة مجموعة "فاغنر" المبهمة للمقاتلين المرتزقة. سلطت تحقيقات كوروتكوف الضوء على عمليات "فاغنر" في الخارج، وعلاقاتها المزعومة برجل الأعمال يفغيني بريغوجين المعروف بأنه مقرب من الرئيس الروسي، والملقب بـ"طباخ بوتين".
تشمل مليشيات "فاغنر" المئات من المرتزقة الروس الذين قتل عدد منهم خلال صدام مع القوات الأميركية، عندما جرت محاولة فاشلة للسيطرة على مصفاة للنفط في سورية، في فبراير/ شباط عام 2018. أُبلغ عن نشاط المجموعة في أوكرانيا أيضاً.
في مارس/ آذار الماضي، أثارت صحيفة "نوفايا غازيتا" غضب السلطات الشيشانية، عبر توثيق عمليات الإعدام خارج نطاق القضاء التي تحدث في تلك الجمهورية. بعد أيام قليلة من صدور المقال الذي وقعته الصحافية الروسية الاستقصائية إيلينا ميلاتشينا، وعنوانه "خدمت في قوة الشرطة الشيشانية ولم أرغب في قتل الناس"،
نشر فوج من القوات الخاصة الشيشانية شريط فيديو ظهر فيه العسكريون بأسلحتهم وهم يطلبون من فلاديمير بوتين إعطاءهم "الأمر" بالدفاع عن أنفسهم أمام "الهجمات الشنيعة" التي تشنها عليهم الصحيفة الروسية. كما نشر البرلمان الشيشاني، في 18 مارس/ آذار الماضي رسالة إلى بوتين، اتهم فيها المقال بـ"الإهانة والتشهير"، وزعم أن "نوفايا غازيتا" تهدف إلى "زعزعة استقرار الوضع الاجتماعي والسياسي" في روسيا.
في اليوم نفسه، خاطب رئيس الشيشان رمضان قديروف المتحدث باسم بوتين، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مهاجماً صحافيي "نوفايا غازيتا"، وواصفاً إياهم بـ"عملاء الخدمات الخاصة الغربية"، وزاعماً أنهم "يتآمرون ضد السلطات الشيشانية، ولديهم أجندة معادية لروسيا".
وقالت حينها ميلاتشينا إن الطريقة الوحيدة لمقاومة مثل هذه الهجمات هي الاستمرار "حتى يفهم من قتلوا زملائي أنه سيكون هناك صحافي آخر سيواصل عملهم".