"لا يمكن الوثوق بالطاغية ليكون مؤرخاً. دورنا هو الحِفظ. الذاكرة الجماعية فعلٌ تحرري. تذكروا، وبلّغوا"، هذه كلمات الكاتب الأميركي جيمس بالدوين. والذاكرة لا يحفظها الكبار فقط.
عشرات الأطفال والمراهقين، وأشهرهم آن فرانك (مذكرات آن فرانك أو يوميات فتاة صغيرة)، كتبوا مذكراتهم خلال المحرقة اليهودية (الهولوكوست). بعضهم كتبوا من بلاد اللجوء، والبعض الآخر كتبوا من مخابئهم، أو كعابرين، وآخرون كتبوا من غيتوهات في أوروبا الشرقية. كتبوا في ألمانيا، والنمسا، وهولندا، وفرنسا، ومحمية بوهيميا ومورافيا، وبولندا، وليتوانيا، ولاتفيا، وروسيا، ورومانيا، والمجر.
انتهت الحرب العالمية الثانية، لكن المجازر لم تنته. كتب أطفال من البوسنة والهرسك مذكراتهم (يوميات زلاتا: حياة طفل في زمن الحرب سراييفو بقلم زلاتا فيليبوفيتش، وطفولتي تحت النار: يوميات سراييفو لناديا هاليلبيغوفيتش). الفلسطينية ماري حزبون، المولودة في بيت لحم، لجأت إلى الفن لتوثق ولـ"تُشفى" من تجربة العيش تحت نير الاحتلال الإسرائيلي. العراقية هدى ثامر جهاد كانت في الـ18 من العمر عند الاجتياح الأميركي لبلادها في مارس/ آذار 2003. بعد الغزو بوقت قصير، بدأت بتدوين مذكراتها، على أمل "أن يساعدها ذلك في التنفس". حتى أطفال أوكرانيا كتبوا مذكراتهم بعد الغزو الروسي لبلادهم في فبراير/ شباط 2022 (لا تعرفون ما الحرب: مذكرات فتاة من أوكرانيا ليافا سكاليتسكا).
والآن، يحاول أطفال غزة تدوين مذكراتهم أيضاً. كيف؟ من "المقبرة" حرفياً، ولا بالورقة والقلم، بل عبر منصات يفترض أنها ابتكرت لـ"التقاط وابتكار ما نحبه ومشاركته" (هذا وصف إنستغرام مثلاً للهدف منها)، لا لتكون نوافذ نتفرج من خلالها على المجازر.
أطفال غزة، وفي محاولتهم كتابة مذكراتهم، أطلوا الثلاثاء بمؤتمر صحافي. وقال من يمثلهم، وهو طفل أيضاً: "منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، نحن نتعرّض لإبادة وقتل وتهجير، وتسقط الصواريخ فوق رؤوسنا، أمام مرأى ومسمع العالم. يكذبون على العالم بأنهم يستهدفون المقاومين، لكن كأطفال نجونا من الموت أكثر من مرة. نحن كأطفال نجونا من الموت أكثر من مرة. وجئنا لنحتمي في الشفاء (مستشفى غرب مدينة غزة)، بعد تعرضنا للقصف مراراً، ونفاجأ أننا تحت الموت مجدداً، بعد استهداف مستشفى الشفاء. الاحتلال يجوعنا. نحن منذ أيام طويلة لا نجد ماء ولا طعاماً ولا خبزاً، ونشرب مياها ملوثة".
وأضاف: "جئنا لنصرخ كأطفال، وندعوكم لحمايتنا. أوقفوا الموت. نريد الحياة. نريد السلام. نريد محاكمة القتلة. نريد الغذاء والدواء والتعليم، ونريد الحياة".
هذه الصرخة أطلقها طفل غزة باللغتين العربية والإنكليزية، وجابت منصات التواصل الاجتماعي.
أطفال غزة الذين وصفهم رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي، بينامين نتنياهو، بـ"أطفال الظلمات"، يريدون الحياة. يطلون علينا من "إنستغرام"، التي ابتكرت ليشارك مستخدموها "لحظات يحبونها"، وهم يبكون ويدفنون عصفوراً نفق من شدة القصف الإسرائيلي، أو ليخبرونا عن القطة "لولو" التي خاطروا بحياتهم لإنقاذها من شمال القطاع، لأنها "بتخاف (تخاف) من القصف. البسة (القطة) زيها زينا (مثلنا)"، أو عن قطة أخرى "مرتعبة من الحرب، فكل الدنيا مرتعبة من الحرب، حتى البسة"، أو تلك التي تريد أن تكون أميرة لمملكة من الحلوى والشوكولاتة، أو الذي يريد تعمير غزة، أو التي تريد أن تعيش وأطفال غزة بخير وأن تنتصر غزة، أو تلك التي أنقذت كتبها من القصف.
كل هذه المشاهد توثق يوميات أطفال غزة الذين لا يزالون أحياء، من دون استثناء المشاهد التي توثق بكائهم على الأهل والإخوة والأخوات والأقارب والأصدقاء، أو تلك التي ترصد نجاتهم من تحت الركام، والتي يلتقطها آخرون عنهم.
أمّا الطفل عبود بطاح، الذي يصف نفسه بأنه "الوريث الوحيد لشيرين أبو عاقلة" (الصحافية الفلسطينية التي اغتالها الاحتلال الإسرائيلي في مايو/ أيار 2022)، فيطل عبر "إنستغرام" حيث أصبح لديه نحو مليوني متابع، ليدوّن يومياته في غزة، وإن كانت تقدم إلينا على شكل موجز يختصر حياة عبود بطاح ليتطرق إلى أوضاع القطاع كلّه. هل هذا "ما يحب" عبود مشاركته عبر "إنستغرام"؟
هذه اليوميات التي تدون أمام العالم كله لحظة بلحظة لا تعكس إلا جزءاً من النكبة. فما لا يقوله أطفال غزة عن أنفسهم هو إن القطاع أصبح "مقبرتهم".
إذ دعا الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، الاثنين، إلى وقف عاجل لإطلاق النار محذّراً من أن القطاع يتحوّل إلى "مقبرة للأطفال". وأعربت رئيسة اللجنة الدولية للصليب الأحمر ميريانا سبولياريتش إيغر، الثلاثاء، عن "صدمتها" لرؤية المعاناة التي يقاسيها أطفال غزة. ونقل بيان للصليب الأحمر عنها قولها إن "جراحو اللجنة الدولية للصليب الأحمر يعالجون في غزة أطفالاً تفحّم جلدهم من جراء حروق واسعة النطاق... مشاهد المعاناة والأطفال القتلى والجرحى ستطاردنا جميعاً. إنه إخفاق أخلاقي". وأكد المتحدث باسم منظمة الصحة العالمية، كريستيان ليندماير، الثلاثاء خلال المؤتمر الصحافي الدوري لوكالات الأمم المتحدة في جنيف، أن "في المتوسط يقتل 160 طفلاً كل يوم في قطاع غزة".
وحتى ظهر أمس الأربعاء، قال المتحدث باسم وزارة الصحة في غزة، خلال مؤتمر صحافي، إنّ حصيلة الشهداء في القطاع وصلت إلى 10569 شهيداً، من بينهم 4324 طفلاً و2823 امرأة، منذ بدء العدوان الإسرائيلي في 7 أكتوبر الماضي.