توفّق المخرج التونسي يوسف الشابي، في فيلمه الروائي الأول "أشكال"، في تمثّل نصّ خبيء وقاضّ، حول ترسّبات الوضع السياسي وخيبات ما بعد الربيع العربي. الذريعةُ تحقيقٌ بوليسيّ، في ظاهره جثثٌ متفحّمة، يُعثر عليها في بنايات في "حدائق قرطاج". حيٌّ غير مُكتمل في تونس العاصمة، أنشئ لفائدة أعيان النظام القديم، عادت أعمال البناء إليه حديثاً بعد توقّفها مع اندلاع الثورة.
استثمار الشابي المُلهَم للفضاء ينهل من تأثير الفنّ المعاصر، بلقطاتٍ ثابتة وعامّة، تجعل منه مسرحاً يختزل المدينة بأسرها. كلّما سعى المُحقّقان فاطمة (فاطمة أوصيفي)، الشابة التي لا تُسلّم بأي شيءٍ، محاولةً استجلاء الحقيقة كاملةً، وبَطل (محمد حسين قريع)، رجل النظام القديم، الذي يرنو إلى أكثر التفسيرات اعتيادية، إلى سبر الأفقية، بحثاً عن دلائل ومُشتبه فيهم بجرائم قتل مُفترضة، بعد استبعاد فرضية الانتحار، أعادتهما عمودية الفضاء، وعدم اكتماله وقتامته، إلى النقطة الصفر، بإيحاءاتها، إلى تجريدٍ تعكسه طبيعة القاتل، التي تزداد غموضاً وهلامية مع تقدّم الأحداث، في إشارة بليغة إلى تعبيره عن فكرة سياسية ودينية مُستعصية على القبض، لأنّها تسري في أوصال المجتمع وأنساق تفكيره.
تعبر لازمة النار والتضحية بإحراق النفس الفيلمَ برمّته، مُحيلةً على مراجع أكثرها بديهية حادثة إضرام محمد البوعزيزي النار في نفسه (17 ديسمبر/ كانون الأول 2010)، التي أطلقت الثورة التونسية (4 يناير/ كانون الثاني 2011)، لكن أيضاً ما يمثّله قبس النار كإشارة لنقل السلطة والنفوذ من الآلهة إلى الآدميين، في أسطورة بروميثيوس، ثمّ وظيفة اللهب المُطهّرة للأجساد في التصوّر الديني، الحاضرة في مشهد نهاية غير مُتوقَّعٍ، ومُغرَقٍ في الغرابة.
العرض الأول لـ"أشكال" حاصلٌ في "نصف شهر المخرجين" في الدورة الـ75 (17 ـ 28 مايو/ أيار 2022) لمهرجان "كانّ"، قبل أن يُشارك في المسابقة الرسمية للدورة الـ19 (11 ـ 19 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020) لـ"المهرجان الدولي للفيلم بمرّاكش"، حيث التقت "العربي الجديد" مخرجه الشابي، قبل أنْ يُتوَّج، بـ"الحصان الذهبي" في الدورة الـ28 (25 فبراير/شباط ـ 3 مارس/ آذار 2023) لـ"مهرجان فيسباكو" في واغادوغو (بوركينا فاسو).
(*) اخترتَ أنْ تبدأ "أشكال" بلوحةٍ مكتوبة، تحتوي على عناصر تضع المُشاهد فوراً في سياق قراءة سياسية له: الأعيان، حدائق قرطاج، وقف البناء مع بداية الثورة. هل كان هذا الاختيار حاضراً منذ النُّسَخ الأولى للسيناريو؟
نعم، كان موجوداً منذ النسخ الأولى. لكنْ، كي أكون صريحاً معك، أفضّل الفيلم من دون لوحة مكتوبة. مثلاً، يُطرح عليّ سؤال: هل يُستحسن اختيار نسخة مع لوحة مكتوبة لإطلاق الفيلم في تونس، أم من دونها؟ السياق السياسي معلومٌ في تونس، لكنْ ليس بالضرورة في الخارج. هناك حرصٌ على وضع المُشاهدين في سياق ما حدث قبل 10 سنوات. في الحالتين، يبدأ الفيلم بشكل واقعي، ثمّ يتحلّل تدريجياً إلى شيءٍ غريب. بهذه الطريقة، يصبح هذا الواقع، في حدّ ذاته، نوعاً من المقدمة. الفكرة أنْ يغدو الفيلم، شيئاً فشيئاً، أقلّ قابلية للفهم، وأكثر تجريداً.
(*) يلعب الفضاء دوراً أساسياً في هذا الصدد. هناك دوره الأدائي أوّلاً، لأنّه المكان الذي تدور فيه الحبكة حول الجثت والاحتراق. لكنّه، قبل كلّ شيء، يضعنا في أجواءٍ تكاد تحاكي تلك التي يخلقها الفنّ المعاصر. هل سبق مفهوم استخدام الفضاء لهذا الغرض الكتابةَ، أم كلّ شيء بدأ عندما عثرت عليه؟
اكتشاف الفضاء جعلني أرغب في صنع الفيلم حقّاً. أدركتُ، سريعاً، أنّه سينمائي، وأنّه يسمح لي بالاشتغال على أشياء تهمّني كثيراً: التجوّل والتمعّن في هذه المدينة المُخفقة، أو التي لم تنجح بمعنى ما. في الواقع، هناك منذ البداية ثراء في هذا الفضاء، وغرابة متأصّلة، وسياق سياسي علاوة على ذلك. مثل مسرح يحتوي على أشياء كثيرة من التاريخ المعاصر لتونس، فغدا حتماً إحدى الشخصيات الرئيسية.
(*) في كل مرة يحاول فيها المحقّقان التقدّم في شكل أفقي، كان الفضاء يعيدهما إلى الرأسية، عبر نوع من تسامي الأشكال (المباني، الأعمدة، السلالم، إلخ.) في استحضار للبُعد الديني الذي يشكّل جانباً مهمّاً للفيلم. ليس كلّ شيء فيه مرتبطاً بالسياسة.
فعلاً. ليست السياسة فقط، ولو أنّ بُعدَي السياسة والدين مرتبط أحدهما بالآخر ارتباطاً وثيقاً، أحياناً كثيرة. لكي نكمل النقاش حول الفضاءات، قلتَ قبل قليل شيئاً مُهمّاً أوافقك عليه: السعي لمفهومٍ يجعل من هذه الأماكن شيئاً يشبه المتاحف. تقدّم المدينة نفسها، بالفعل، من الخارج أنماطاً جمالية، تعطي الانطباع بأنْ لا تحكّم للإنسان فيها، فتصبح بالتالي أكثر إثارة للحيرة. نتجوّل في المباني كما لو كنا في متحفٍ. بين الحين والآخر، نرى رسماً أو غرافيتي، ولا نعرف من صنعهما. نصادف 3 أو 4 لبنات مصفوفة، ويتولّد لدينا انطباعٌ بأنّها تنصيبة فنّية. كلّها آثار تشير إلى الوجود البشري، في الواقع.
وجدتُ أيضاً أنّي بصدد ديكور يُمكن ملؤه بملامح، مثل تلك الموجودة في تونس اليوم: مسألة الدين، الشرطة، السياسة الحالية.
(*) لا يكفي وجود فضاء مُلهم، من الضروري استثماره بالإخراج. رأيتُ في العنوان، "أشكال"، إشارةً إلى الجانب الشكلي المُهمّ للفيلم، حيث أوليتَ حيّزاً أساسياً للّقطات الثابتة والواسعة جداً، مع حركة دؤوبة للشخصيات. هل هذا شكلٌ اقتنعتَ به باكراً؟
نعم. عندما بدأت أفكّر في الإخراج، حاولتُ حقاً أنْ أترك للفضاء حرية إرشادي. أعتقد أنّ صعوبة تصوير لقطات واسعة في تونس العاصمة، نظراً إلى هندسة المدينة، لعبت دوراً كبيراً في ذلك. كان رائعاً الحصول على لقطات واسعة تضيع فيها الشخصيات، وتعثر على نفسها فيها أيضاً، وأنْ نعبث بمقاييس الأماكن وحجم الأجساد. بعد ذلك، خلقنا تدريجياً الرابط الخاص بين شخصية فاطمة والديكور، حيث بدأتْ تشعر بالرضا فيه، بشكل غريب ومفارق. نصبح عندها إزاء أماكن ليست فقط منفِّرة، لكنْ مثل معابد نتوه فيها.
(*) يُمكن اعتبار فاطمة الشخصية الرئيسية، حتّى لو كان لدينا محقّقان، لأننا نرى الفيلم بعينيها إلى حدّ ما، والطريقة التي تنظر بها إلى الأشياء تعود إلى شخص لا يفهم ما يجري، عكس بطل رجل النظام، الذي لم يعد يُدهشه شيء.
هي لم تعد تعرف حقاً ما الذي يجب أنْ تفهمه، أو ماذا تصدق. تجاوزتها المشاعر والحساسيات التي تعبُرها. لكنْ، هي أيضاً من ترى كلّ شيء. بالنسبة إلي، ينتهي الفيلم بحقيقة أنّ فاطمة تبلغ أخيراً مرتبة الشاهدة. انتهى بها الأمر إلى الرؤية، لأنّها اختارت ألّا تفهم. إنّها تسائل، حتى "هيئة الحقيقة والكرامة" (هيئة تونسية مستقلّة، تأسست عام 2013، للإشراف على العدالة الانتقالية ـ المحرّر)، التي تعتبر نفسها منبعاً للعدالة. بالنسبة إليها، كلّ شيء مشكوك فيه. كأنّ هناك قوى تسحرها، كشخصية الرجل الذي يرتدي غطاء الرأس حين يمثّل قوةً ليست سياسية ولا اجتماعية.
(*) رأيتُ في شخصية هذا الرجل قوة منتشرة في المجتمع. شيءٌ لا يُمكن القبض عليه، كما غالباً حال التشعّبات بين السياسة والدين في مجتمعاتنا. هذه قوى تتغلغل في كلّ شيء، ويصعب التعبير عنها أو وصفها. هذا ما يحيل إلى فكرة النار التي، عكس الأشكال الأخرى الموجودة في الفيلم، يصعب توقّعها أو السيطرة عليها.
قطعاً.
(*) في ما يتعلّق بالنار، هناك مشهد فَتَنني: عندما يمرّ المحقّقان بجوار حرّاس موقع البناء، الذين يقومون بتدفئة أنفسهم بإشعال النار، يُصبح الأمر مُريباً. كأنّ مجرّد امتلاك النار أضحى مثار شكّ.
نعم. بالإضافة إلى ذلك، غريبٌ كيف أنّ النار تُصبح دالّة جداً في هذه الأماكن. هناك، طبعاً، فكرة تضحية البوعزيزي، التي سبّبت مباشرةً وقف البناء. ولكنْ أيضاً قرطاج، التي دُمِّرَت وسط النيران. هناك نوعٌ من الذاكرة المؤلمة، المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالنار، لأنّ كلّ شيءٍ في تونس بدأ بصورة إحراق البوعزيزي لنفسه، التي غدت قوية كأيقونة دينية. شيءٌ يربك اليوم تاريخ البلد بعمق، بعد أنْ فعّل كلّ شيء في لحظة معيّنة، وفي الوقت نفسه يحقّق شرط الأيقونية البصرية، كسقوط البرجين في نيويورك. هذه صُورٌ تحدث تغييرات جذرية في حياتنا.
(*) هناك مشهد أعتبره مفتاحياً، يعيدنا إلى البعد الديني: تقوم الكاميرا بحركة "ترافلينغ" شفّافة إلى حدٍّ ما، لتأطير يد المُشتبه فيه، أو الرجل ذي غطاء الرأس. هل كتبت المشهد في السيناريو بالطريقة التي صُوّر بها؟
نعم، كتبتُ ذلك منذ البداية، بنيّة الانتقال من المحقّق "بطل" إلى هذه الشخصية. بالنسبة إليّ، يقوم الرجل ذو غطاء الرأس باختطاف الفيلم في الوقت المحدّد، الذي يبدو أنّه دخل في طريق مسدودة. يختطف الفيلم، ويأخذنا إلى عالمه. رغم ذلك، حاولنا عدم إصدار أي حكم عليه، حتى يمكن تأويله بطرق مختلفة. كان، بالنسبة إليّ، الشخص الوحيد الذي يعي وجود الكاميرا، مثلاً. ثمّ أتت فكرة أنّه ينفلت باستمرار. حتّى في المونتاج، حاولنا وضعه في أماكن غريبة وغير مألوفة.
(*) هذا يحيل إلى الجانب غير السويّ، الذي يترتّب عن كون الفيلم ينتمي إلى النوع البوليسي المنزاح، وربما العنصر الأساسي لهذا الانزياح حقيقة أنّه لا يوجد دافع للجريمة.
لا نعرف حتّى ما إذا كان الأمر يتعلّق بجريمة أو لا.
(*) بالضبط. هل كان الحرص على عدم وجود دافع وراء اختيار مَلْمح التضحية بالنار؟
المهم، على أي حال، اعتبار أنّ التضحية بالنار يُمكن قراءتها من وجهات نظر مختلفة. من وجهة نظر سياسية بحتة، إذا شئتَ، لكنْ أيضاً من وجهة نظر صوفية أو دينية أو تنبؤية. لماذا يحرق شخص نفسه؟ لإطلاق حركة، أو بدء شيء ما، على أمل أنْ يتمّ اتّباعه. هناك شيء ما يتعلّق بالصورة الأيقونية، التي تجمع كلّ شيء معاً، ويمكن أنْ تنبع من الواقع بالقدر نفسه الذي تنبع من الخيال. صورة تُعطّل الواقع بشدة.
(*) هناك جملة مهمّة نطق بها الطبيب المُعالج حول الرجل ذي غطاء الرأس: "بعد صدمة مماثلة، يتعيّن أنْ يتعلّموا العيش من جديد". يُمكن قراءتها كاستعارة حول المجتمعات العربية بعد الربيع العربي، فكرة الإنكار الذي تلاه، والقوى الارتدادية التي تسعى لطمس الحدث في طيّ النسيان.
نعم. إنّه نوعٌ من فقدان الذاكرة الطوعي. هناك، بطبيعة الحال، قوى تنظم نفسها حتّى تطمس الذاكرة. هذا ما يحدث في تونس حالياً، رغم أنّ الأمر يتعلّق بأحداثٍ جرت قبل 10 سنوات فقط، ولا يزال رمادها ساخناً، كما يُقال.
(*) الفيلم لقِيَ استحسان النقّاد في "نصف شهر المخرجين" في "كانّ"، وهنا في مرّاكش. ماذا كانت ردود فعل الجمهور تجاهه، وخصوصاً في منطقتنا؟
تحدّثت إلى طلاب السينما الشباب بعد العرض (في "مهرجان الفيلم بمرّاكش، 2022 ـ المحرّر). المثير للاهتمام أنّهم كانوا توّاقين إلى معرفة كيف يُمكن تطوير أفلام النوع، ونظلّ في الوقت نفسه مُنتبهين إلى ما يحدث في مجتمعاتنا. لم نعد بحاجة إلى تبنّي أنماط تناول أجنبية كمراجع، ففي وسعنا أنْ نطوّر نماذجنا الذاتية، ونحاول أنْ نستخلص منها سينما سخيّة في اعتمادها على الخيال، واحتوائها على مقترحات لا تخشى النّهل من مخيالنا الذاتي. ألّا نعلق في واقعنا ونزعة استنكاره. أعتقد أنّ صنّاع الأفلام ليسوا سياسيين، وأحياناً يكون خطراً عليهم الاختباءُ وراء خطابات جاهزة.
(*) في الختام، أودّ منك كلمة عن الموجة التونسية الجديدة، التي ساهمتَ في إطلاقها مع أسماء مهمّة، كالمخرج علاء الدين سليم، ومدير التصوير أمين مسعدي. لا تزال هناك قواسم مشتركة في اشتغالاتكم، من حيث المواضيع والحساسيات الشكلية. لكنْ، كيف ترى تطوّر الموجة مع مرور الزمن، مقارنةً بطموحاتكم؟
هذا سؤال جيّد. لأكون صادقاً (يطرق مُفكّراً)، أعتقد أنّ السينما تتغيّر في تونس. لدي دائماً انطباعٌ بأنّها سينما تعتمد على جهود أشخاص مستقلّين، cinéma de francs-tireurs. لا توجد سينما تونسية بعد، لكنْ توجد أفلام تونسية أكثر فأكثر. مؤكّدٌ أيضاً أنّ هذه الأفلام تتحاور فيما بينها.
يبدو لي أنّنا نمضي شيئاً فشيئاً نحو استكشاف مخيال هذا البلد، ونحو مزيد من الثقة في إمكاناتنا السينمائية: أشياء تتعلّق بمناظرنا الطبيعية، تصوير وجوه الناس، ألّا نظلّ مهووسين برواية واقع المجتمع، أو إسداء تكريم له. ينبغي استكشاف أحاسيس دقيقة، ربما تقتضي ملكةً شعرية. ننسى ذلك أحياناً كثيرة، كيف تسمح لنا السينما بأخذ الوقت الكافي للنّظر إلى الأشياء. يكفي أن تشغّل التلفاز كي تحصل على خطابٍ سياسي. نحن بحاجةٍ أيضاً إلى استكشاف غير المرئي. السينما تجعل ذلك ممكناً، وخاصة في فترات كالتي نعيشها، تطبعها خيبة الأمل في الأوضاع السياسية.
علينا الخوض في روابط أكثر تجريدية، لأننا نعيش في عالمٍ لم نعد نعرف فيه قيمة الأشياء. يبدو لي أنّ أفلامنا ستتّخذ أكثر فأكثر أشكالاً هجينة، كالمغناطيس الذي يجذب أشياء مختلفة.