وثائقي عن كونديرا: أسلوب ممتع وجذّاب

25 مارس 2022
ميلان كونديرا وزوجته فيرا التي كان لها دورٌ كبير في حياته (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

في الغرب، لا يُعرف الكثير عن شعره ومسرحياته المبكّرة. حتّى وقت قريب، لم تُنشر أيّ من رواياته المكتوبة بالفرنسية في جمهورية التشيك. بالإضافة إلى ذلك، تكتنف ميلان كونديرا (1929) أساطير وألغاز. لماذا ينأى عن الحياة العامة؟ كيف يمكن الاقتراب من كاتب ومفكّر يرفض إجراء مقابلات، ويتجنّب الظهور الإعلامي منذ عام 1985؟ ملاحظات وتساؤلات يستهلّ بها المخرج التشيكي أونيسلاف شميدماير "ميلان كونديرا من المزحة إلى التفاهة" (2021)، المشارك في قسم "آفاق مفتوحة"، في الدورة الـ24 (10 ـ 20 مارس/آذار 2022) لـ"مهرجان سالونيك للفيلم الوثائقي".

يبدأ شميدماير تحقيقاته وأبحاثه كأنّه طالب جامعي، يريد كتابة أطروحة عن الكاتب المتخفّي، فيثير فضولاً: هل سيحظى المُشاهِد بحضور كونديرا في الفيلم، أقلّه في الأعوام الأخيرة السابقة على مرضه؟ شميدماير يُمهّد، منذ البداية، إلى غياب الكاتب، ويورد ما قاله له صديق لكونديرا في جمهورية التشيك، بأنّ مُقابلته ربما تكون ممكنة، بعد تنفيذ شروطٍ عدّة، منها التعرّف على عائلة الكاتب، وإجادة الحديث في الموسيقى، وغيرها. شروطٌ مستحيلة، يتطلّب تحقيقها 20 عاماً على الأقلّ، فيحلّ بعضُ يأسٍ من لقاء واقعي، وظهور حديث لكونديرا، قبل غيابه عن الحياة العامة بسبب مرضه، الذي (المرض) لا يُشير الفيلم إليه.

لكنّ الخيبة كادت تكون مؤكّدة لولا غنى الفيلم بالمعلومات المُقدَّمة بأسلوب ممتع وجذّاب، متنقّلاً بين التشيك وفرنسا. هكذا يأخذ السردُ المُشاهد بعيداً عن تساؤلاته، ليستغرق معه، مُكتفياً (وربما مُرغَماً) بأحاديث وآراء عن كونديرا، وبرؤيته في مقاطع فيديو قديمة ونادرة، وسماعه قارئاً بعض نصوص وأفكار. إنْ طال الكلام أحياناً، فالصورة لا تتوقّف عند المُتحدّث، بل تدور لتنهل من أرشيف غنيّ، سمعيّ وبصري، أكان مُتعلّقاً بالأدب، كمَشاهد من مسرحيات لكونديرا، ولقاءات معه، أم بالتاريخ، لا سيما فترة حياته في تشيكوسلوفاكيا السابقة، قبل مُغادرته إياها.

البداية في براغ، موطن كونديرا، ولقاءات مع بعض ممن عاصره ورافقه هناك، وأحاديث عن علاقته بالحزب الشيوعي، الذي فُصِل منّه مرّتين، آخرها عام 1970، وعن دراساته الأدبية والفنية، والتأثير القوي على الآخرين، لا سيما على ما عُرف بالموجة التشيكية الجديدة في السينما، الذي مارسته شخصية وأفكار الكاتب والفنان، حين عمل أستاذاً مُساعداً ومُحاضراً في كلية السينما والأدب، ومُحرّراً في مجلة أدبية. يكشف الفيلم علاقته القوية بالموسيقى، وتمتّعه بثقافة موسيقية عالية، بفضل والده لودفيك، الموسيقيّ الكبير، ورئيس جامعة جانكيك للأدب والموسيقى: "كانت موضوعاً حسّاساً بالنسبة إليه. حبّه لأبيه ولّد فيه حبّ الفن الحديث، الذي يقف ضد التيار"، هذا الفن الذي يُعرَض في قاعات ومعارض خالية من الجمهور.

تناول "من المزحة إلى التفاهة" تحليلات لمجموعته القصصية الأولى، "غراميات مُضحكة" (1953)، التي كانت سبب شهرته. لكنّه (الفيلم)، سواء في الجزء المُصوّر في براغ أو ذاك المُصوّر في باريس، حيث يقيم كونديرا حالياً، لم يلتفت كثيراً إلى محتوى كتبه، كأنّه يتوقّع أنْ يكون المُشاهد مُلمّاً بها. انصبّ اهتمامه على الكاتب نفسه، راغباً في كشف بواطن شخصيته من خلال آراء عدّة، وروايات أصدقاء له. هكذا تَرِدُ مواقفه في أقوال بسيطة، لكنّها تُلخّص الكثير، كتعليقه بمناسبة فوز تصميم لستارة مسرح الأوبرا في براغ. فحين سئل عن رأيه بالمشروع الفائز، المحتوي على رسومات ورموز تمثّل الفكر الشيوعي والحزب والعقيدة، ردّ بما يُبدي روحه الساخرة: "ما يريده الناس من أي ستارة، أنْ تُفتح وتُغلق".

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

مع "ربيع براغ"، ثمّ احتلال الاتحاد السوفييتي لتشيكوسلوفاكيا (1968)، جُرِّد كونديرا من مناصبه كلّها، ومُنع من الكتابة، وتوقّفت رواتبه، ورفضوا الاستماع إليه، وإلى طلبه أنْ يعمل سائق سيارة أجرة، كما يقول في لقاء مستلّ من الأرشيف (جادّاً أو مازحاً؟). حين اقترح أحد أصدقائه أنْ يكتب باسم مستعار، طالباً منه اقتباس رواية "الأبله" لدوستويفسكي للمسرح، رفض تماماً، مُفضّلاً عليها رواية "جاك القدري" للفرنسي ديدرو. يُفسّر الفيلم ذلك بأنها حساسية خاصة تشكّلت لدى كونديرا من كلّ ما هو روسيّ. ربما يكون ذلك صحيحاً، لكنّه ناقصٌ، إذْ أغفل فيلم أونيسلاف شميدماير ما عُرف عن تحفّظ الأديب على بعض جوانب انفعالية بكائية في الأدب الروسي. وهو، وإنْ كان مُعادياً للنظام السوفييتي، كانت له مواقف مُنتقدة ومُعارِضة للعولمة الغربية عامة، ولتلك المتسرّبة إلى تشيكيا خاصة، إلى درجة أنّه بقي وقتاً طويلاً قبل موافقته على إعادة الجنسية التشيكية إليه، التي جُرّد منها عام 1978، وهذا لم يورده الفيلم.

لم تكن أمامه إلا المغادرة إلى فرنسا مع زوجته فيرا، التي أشار الفيلم إلى دورها في حياته. تنقّل السرد (95 دقيقة) بين أماكن عاش فيها كونديرا: من براغ إلى رين فباريس. لم يعتمد تسلسلاً زمنياً بالكامل، إذْ كان النقاش حول موضوع معين يُحدّد المكان والأشخاص. في فرنسا، التقى شميدماير رفاقاً وزملاء له، للتحدّث عن علاقته بوطنه الأول وبفرنسا، التي طلب جنسيتها ونالها عام 1981. كما أثيرت علاقة كونديرا بالنقد الفرنسي، الذي كان يريد إسقاط صورة "المنشقّ" السياسي عليه، والسياسة على رواياته.

عام 1995، قرّر أنْ يجعل اللغة الفرنسية لغته الأدبية، حين نشر رواية "البطء"، بعد أنْ كَتَب في فرنسا، بالتشيكية، "الضحك والنسيان" (1978)، وأشهر رواياته "خفّة الكائن التي لا تُحتمل" (1984)، التي جعلته كاتباً عالمياً. هذه العلاقة القوية والمتمكنة لكونديرا مع اللغة الفرنسية، التي استمرّت في روايات أخرى، كـ"حفل التفاهة" (2013)، جعلته يقرّر أنْ تكون مصدراً وحيداً لتُترجم عنها كتبه إلى أي لغة أخرى، بعد أنْ راجع بنفسه الترجمات الفرنسية عن التشيكية. ومع قرار نشر أعماله في سلسلة "لابلياد" المرموقة، اكتفى المخرج بلقاء مدير منشورات "غاليمار"، فيليب سولير، من دون أنْ يشير إلى الكاتب الكندي فرانسوا ريكار، المتخصّص بأعمال كونديرا، والوحيد المعتَرَف به من قِبله للإشراف على مطبوعاته،والذي حرّر التحليلات التي تلي كلّ رواية له في تلك السلسلة.

لا يعرض "من المزحة إلى التفاهة" الأعمال الرئيسية لكونديرا وموضوعاتها، بل يُعرّف فقط ببعض نصوصه وآرائه عن الفن والإبداع والأدب، وأعماله التي تقاوم الصورة، أي تلك التي يصعب تصويرها. لكنّه كشف ملامح عدّة من شخصية الروائي والمفكر، وأفرد مساحة للحديث عن صفات عدّة له، كدقّته في مراجعة ترجمات كتبه ومخطوطاتها، فكان يُعيدها مليئة بشخوطات وتصحيحات، مُشدّداً على كلّ نقطة وكلّ فاصلة وكلّ مسافة. معه، يجب عدم الانزياح قيد أنملة.

تجنّب اللقاءات الصحافية، مُعترضاً على رؤيته من خلال صورة مُحدّدة له في أذهان المحاورين، كما قال بوضوح، مُبرّراً رفضه تلك اللقاءات. وأيضاً، لاعتقاده أنّ إجاباته وآراءه في الفلسفة والحب والحياة، وفي أي شيء آخر، موجودة في كتبه، كما كان يؤكّد.

المساهمون