وثائقي بيليه: أربعة أهداف في مرمى 1970

09 مارس 2021
هل كان بيليه مجرّد لاعب كرة قدم؟ (أليساندرو ساباتيني/Getty)
+ الخط -

ينحصر جزءٌ كبير من ذكر بيليه، اليوم، في عدد الأهداف الفعلية التي سجّلها، ومحاولة حصر هذا الرقم لنحدد من تفوّق على بيليه وعلى من تفوّق البرازيلي. وهو في الواقع أمرٌ يدعو إلى البؤس والتساؤل عما إذا كانت فكرة "فريق الميديا" الذي يدير حساب أحدهم فكرةً سديدة.

لحسن الحظ، فإن "نتفليكس" هنا للإنقاذ، للعودة بالزمن قليلاً إلى الحقبة التي كان بيليه فيها مشغولاً بتسجيل هذه الأهداف حقاً، وقيادة البرازيل نحو تحقيق ثلاث كؤوس عالم، وحضور متزايد على الخريطة الدولية، وكمٍ هائل من التفاصيل المثيرة للجدل، خلال فترة الحكم الديكتاتوريّة العسكرية المدعومة من الولايات المتحدة الأميركية. ومن المنصف القول إن مجرد ذكر هذه العناصر في ظل مأساة بيليه الحالية مع لاعبي اليوم، تعطي الفيلم أفضلية قبل أن يبدأ حتى.

التاريخ يقفز مرة كل أربعة أعوام
يعتمد الفيلم على كؤوس العالم كنقاط زمنية. ولم لا؟ قد تكون هذه المناسبة الأكثر سهولةً للتذكر بالنسبة للمهتمين بكرة القدم، كما أنها الأحداث الأهم بالنسبة لبيليه، مثلما يطلعنا الفيلم. يبدأ الوثائقي، إذن، بلقطات سريعة من مونديال 1970 ثم يعود إلى البداية، إلى طفولة بيليه وبداية مسيرته.

ننتقل بعدها إلى مونديال 1958، الذي أقيم في السويد، ووضع العالم وجهاً لوجه مع الموهبة الجديدة. لم تكن البرازيل حينها القوة الكروية المهيمنة التي نعرفها اليوم. وكما سيحاول الفيلم تقديمه، فإن بيليه كان عامل الحسم والسبب في فوز البرازيل بهذا المونديال. ويتزامن ذلك مع لقطات من مونديال 1950، الذي أقيم في البرازيل وانتهى بحرقة قلب المنظمين، بعد خسارة النهائي الشهيرة على ملعب ماراكانا. وبالنسبة لبيليه، الذي كان طفلاً حينها، فإن دموع والده في ذاك اليوم هي التي دفعته إلى قيادة منتخب بلاده بعد ثماني سنوات، وإهداء والده الكأس.

يتجنب العمل الخوض في الانقلاب العسكري الذي شهدته البرازيل

ينتقل بعدها الوثائقي إلى مونديال 1962، الذي تظفر به البرازيل، رغم إصابة بيليه، وتتحول إلى مرشحٍ دائمٍ، ويصبح بيليه الوجه لبلدٍ فتيٍ يحاول الظهور على الساحة العالمية، ووجهاً أكثر اعتياداً على مصادفة الكاميرا والأضواء. وفجأة، تصبح البرازيل مسرحاً للانقلاب، الذي يتجنب الفيلم الخوض عن كثب في أسبابه أو حيثياته، وتظهر اعتبارات جديدة لمونديال 1966 لم تكن موجودة سابقاً، إذ تحاول السلطة تسخير التفوق الكروي ضمن سياساتها الداخلية، التي تزامنت مع ما يسميه بعض الاقتصاديين "المعجزة البرازيلية"، والتي ستنتهي بتضخمٍ مؤلم مع أزمات النفط في العقد التالي.

وخلال هذا المونديال، الذي فاز به المنتخب الإنكليزي المضيف، بدأت كرة القرم بأخذ شكلٍ تكتيكي لم يكن موجوداً من قبل على حساب الإيقاع الحر، وسقطت البرازيل ضحية لذلك مع إصابة بيليه خلال هذه النسخة أيضاً. ومنذ هذه النقطة، يصبح الفيلم مركزاً على التحضير لمونديال 1970، والضغوط التي تعرّض لها بيليه للمشاركة فيه، وحياته الشخصية آنذاك.
وكما يعرف الجميع، انتهى هذا المونديال لصالح البرازيل بعد تغلّبها على إيطاليا بأربعة أهداف لواحد، ولتكون هذه المسابقة الأخيرة التي يخوضها بيليه مع المنتخب، قبل أن يكمل اللعب لسنواتٍ عدة مع سانتوس البرازيلي، ويتبع ذلك بفترة قصيرة في الولايات المتحدة الأميركية.

اللاعب الذي تصعب مراقبته
إن عنوان الفيلم، Pele، لا يوحي بمعالجة الموضوع من زاوية معينة، بل بما يشبه محاولة سرد القصة الكاملة، وهو أمرٌ مستحيل بكل حال. إذن، عما سيكون هذا الفيلم؟ هل سيتعامل مع بيليه داخل حدود الملعب وحسب؟ أم خارجه أيضاً؟ وإلى أي حدٍ سيكشر صناع الفيلم عن أنيابهم أثناء التطرق إلى الجوانب الأقل بريقاً في مسيرة اللاعب البرازيلي وحياته؟ في الواقع، يحاول الفيلم الفوز بتحقيق عدة نقاط دفعة واحدة، وهو ما يفوّت عليه بعض الفرص للتوقف عند نقاطٍ تستحق مزيداً من الاهتمام.

وإذا كانت قصة بيليه في الفيلم تُسرَد في بدايتها مثل معظم قصص لاعبي كرة القدم اليوم، انطلاقاً من البيئة الفقيرة والمصاعب التي تعلّم الإنسان التواضع بالطبع، نحو الثراء ورد الجميل للأسرة، فإن ذلك مردّه ترك بيليه ذاته يسرد هذه القصة، بالاعتماد على مداخلات صغيرة من أخته ومواد وثائقية مختلفة.

يحاول الفيلم الفوز بتحقيق عدة نقاط دفعة واحدة، وهو ما يفوّت عليه بعض الفرص للتوقف عند نقاطٍ تستحق مزيداً من الاهتمام

وهنا، نستطيع أن نتساءل عن جدوى الطرق التقليدية في سرد الحكايات، عند النجوم على الأقل. فاليوم، يحظى معظم اللاعبين -الفاعلين والمتقاعدين منهم- بالتدريب الإعلامي وإدارة الظهور أمام وسائل الإعلام، وبالتأكيد فإن المشاهد حين يتابع الأجزاء التي يظهر خلالها بيليه اليوم في الفيلم، سيعرف أن الأخير قد نال حصته من هذه التدريبات، وأدرك أين يمكن أن يسترسل وأين يتوقف عن الإجابة.

لا بأس بكل ذلك حين يتعلّق الأمر بلاعبٍ أقل سطوعاً، في ظرفٍ أكثر اعتيادية. أما في حالة نجمٍ يصفه البعض بأفضل لاعب كرة قدم في التاريخ (ومن يدري إن كان الأكثر تسجيلاً)، وبالنظر إلى الفترة المضطربة التي شهدتها البرازيل آنذاك، ثمة طمع مشروع لمن يشاهد الفيلم ببحثٍ أعمق عن الحقائق، واكتشاف إن كان بيليه يطبّق التدريبات لأجل تطبيقها وحسب، أم لأن ثمة ما يجب أن يُكسِب الفيلم قيمته المضافة عبر كشفه.

بعيدا عن الملاعب
التحديثات الحية

لا يعني ذلك أن الفيلم لا يحاول وطء هذه المنطقة الحرجة، إذ ليس من الاعتيادي لوثائقيٍ عن رياضيٍ أن يستضيف موسيقياً من عيار غيلبرتو غيل، بما شهده عن تلك الفترة وترحيله من البرازيل آنذاك رفقة كايتانو فيلوزو، أو استضافة الوزير الذي وقّع الأمر رقم 5 أثناء حكم الرئيس ميديسي، فضلاً عن الكتّاب والصحافيين واللاعبين السابقين الذين يحاولون تحديد إذا ما كان بيليه متواطئاً بصمته، أم مجرد لاعب كرة قدم... لا يمكن توقع الحلول منه خارج الملعب، إلا أن هذه الإجابات نادراً ما تصل إلى نقطةٍ ما، ويبدو الفيلم عالقاً بين تمسّكه بالتركيبة الآمنة والخروج عنها.

وبذلك، تبدو إجابة بيليه أنه خدم البرازيل عبر الاستمرار في اللعب أكثر مما كان سيستطيع عبر أي طريقة أخرى، الأكثر ثباتاً في الفيلم، سواء أراد المشاهد تصديقها أم لا؛ لأن الخلاصة القائلة إن النصر في المونديال عدّه البرازيليون نصراً للشعب ورفضوا تذكّره كنصرٍ للسلطة، لا تقدم شيئاً على صعيد محاولة محاكمة بيليه. حتى أن محاولة مقارنته بمحمد علي كلاي، الذي دفع ثمن مواقفه، تبدو مثل محاولة متسرعة وخائبة، وسرعان ما تؤدي مثل قبلها إلى فرصٍ ضائعة.

تبدو إجابة بيليه أنه خدم البرازيل عبر الاستمرار في اللعب أكثر مما كان سيستطيع عبر أي طريقة أخرى، الأكثر ثباتاً في الفيلم

ثمة فكرة أخرى لا يتوقف الفيلم عن التركيز عليها؛ وهي علاقة البرازيل الغريبة بكرة القدم. حين تخسر البرازيل مونديال 1950، فإن كل العقد الوطنية تظهر وتصيب الشخصية البرازيلية بالعجز، وحين تعود وتظفر به، فإن البرازيل تستطيع صرف نظرها عن المركز الأوروبي والنهوض بنفسها. لماذا؟ لا يتوقع من فيلمٍ كهذا تقديم درسٍ حقيقيٍ في التاريخ، وإرفاق كل معلومة وهدف في سياقهما التاريخي، إلا أن طريقة الفيلم في التطرّق إلى هذه المواضيع، التي لا يمكن المرور عليها وحسب، هو ما يفتح الباب أمام هذه التساؤلات، التي لا شك أن معالجتها بشكلٍ أفضل كانت لتصنع وثائقياً متكاملاً.

سينما ودراما
التحديثات الحية

مع ذلك، ينجح الفيلم في أماكن أخرى، عبر المزج بين الأمس واليوم، بالسرعتين المختلفتين لكلٍ منهما. فبعد اللقطات السريعة عن مونديال 1970، التي يُفتَتح الفيلم عبرها، تظهر غرفة المقابلة التي يدخلها بيليه ببطء معتمداً على عكاز. نبدأ منذ هذه اللحظة بإدراك المستويين هذين، والتلاعب بهما.

سنعرف أن بيليه لا يزال حتى اليوم يجيد العزف على صندوق تلميع الأحذية الذي عمل عليه في طفولته، وسنرى أحياناً دموعه أو فرحته أثناء عرض لقطات من مسيرته عليه، وهي واحدة من اللحظات القليلة التي يترك بيليه فيها نفسه ويخرج عن صمته الحذر والسردية التي حفظها. كذلك الأمر للقطات التي تجمعه مع رفاق الملعب القدماء. وإن كانت مشاهدة لقطاتٍ من مباريات نعرف اليوم كلنا نتيجتها وأهداف حفظناها تبدو رتيبة، فإن الفيلم ينجح في عكس ذلك وفي تحريك المشاهد (المشجع للبرازيل على الأقل) إلى أقرب درجة تماثل تلك التي تحدث عندما يُسجَّل الهدف مباشرةً على الهواء، ولا شيء اليوم يضاهي الظفر بلحظاتٍ قصيرة، تنجح خلالها خطة الهروب من الحاضر، إلى زمنٍ آخر أياً كان، ولو كان ذلك عبر نسخة قديمة من المونديال.

المساهمون