نصف قرن من الشراكة الإبداعية جمع عملاقين من عمالقة الجاز، عازف الترومبيت الأشهر، ربما بعد لويس أرمسترونغ، مايلز ديفيس، وعازف الساكسفون واين شورتر الذي رحل في الثاني من مارس/آذار الحالي، عن 89 عاماً.
خماسي موسيقي أوجده ديفيس، ضم إلى جانب شورتر أسماء أربعة وضّاءة في سماء الجاز، وعلى ذات القدر الفني وعلو المنزلة الموسيقية؛ عازف الكونتراباص رون كارتر، والبيانو هيربي هانكوك، والدرامز توني وليامز.
ليست البراعة الموسيقية وحدها التي ميّزت تلك الكوكبة، وإنما العمق الفكري والرؤية الفنية. ببحّته التي تشبه إلى حد بعيد الصوت الذي يصدر عن آلته الترومبيت إن أُطبِق عليها بقمعٍ خامد، كان ديفيس يسأل واين خلال الدردشات المطوّلة التي لطالما تبادلاها معاً على هامش التدريبات، ما إذا كان السأم قد أصابه من "عزف موسيقى تتناهى مجرّد موسيقى"؟
تساؤلٌ يبدو لامعقولاً، أو حتى غير جدي للوهلة الأولى، بيد أن العبرة من ورائه تكمن في أن موسيقيين كديفيس وشورتر، كانا قد سخّرا مسيرتهما الفنية لغرض واحد، هو التجاوز. التجاوز يعني هنا اختراق الخرسانة الأكاديمية الثخينة التي تشيّدت بفعل سنوات التعلّم والدراسة، في سبيل العودة إلى الفطرة الأولى.
بحسب شورتر، فإن الموسيقى الحقّة إنما تصدر عند تلك "اللحظة التي تعادل الأبدية"، حين يشرع المؤدي في الارتجال مُحدثاً بذات المستمع صدمة شعورية غير محسوبة ولا متوقعة. ذاك هو جوهر العمل الموسيقى وغاية المُشتغل بالموسيقى، إن أراد أن يتجاوز الفنّ القديم المكرور إلى فنٍ جديد فريد.
ذلك يحتاج إلى الجرأة والشجاعة، أن تنكشف أمام جمهورك ماسحاً ذاكرتك بيدك مما تعلّمت، ليس في جعبتك سوى آلتك الموسيقية تسير بها على جرف الارتجال. تلك الخاصية الفنية، النفسية والفكرية ما جعل شورتر ورفاقه طليعة موسيقى الجاز من جيله.
حين لفت أداء واين أذن ديفيس، كان الأول عضواً في فرقة موسيقية تحت مسمى The Jazz Messengers (رسل الجاز)، ضمت عازف الترومبيت لي مورغان والدرامز آرت بلاكي. بُعيد حفلِ أحيته الفرقة حضره ديفيس بسبب مرضه من على مقاعد المستمعين، عرض الأخير على واين أن يعملا معاً.
لم يكن الوقت قد حان بعد بـ واين لكي يترك فرقته الوليدة ملتحقاً بديفيس، الذي تفهّم الأمر ولم يمانع الانتظار. إلى أن أتت سنة 1964، حين اتفق الاثنان على إقامة حفل في قاعة هوليوود الشهيرة Hollywood Bowl في ولاية كاليفورنيا الأميركية، لتنطلق بذلك مسيرة التعاون الطويلة تاركةً واحدة من بين أهم البصمات في تاريخ الجاز.
إلى جانب ارتجالاته الفردية الشهيرة بجرأتها وبراعتها، من خلال عزف نغمات سريعة الإيقاع مرتفعة العلو، لعبت المقطوعات التي كتبها واين شورتر لخماسي ديفيس دوراً رئيساً في تألقه وتألق المجموعة. ميله إلى الحداثة التجريبية دفع بالفريق نحو آفاق لم يكن ليسبرها من دون إلهامٍ منه. تضافر كلّ من رؤيويّة ديفيس وموهبة واين في إنتاج ألبومات أثرت في جيلهم ومن أتى من بعدهم.
ألبوم Miles Smiles الذي أصدر سنة 1966، تظهر عليه علامات نضج العلاقة الفنية بين الاثنين. وفيه، تتجلّى جهود المواءمة بين إرث الجاز الأول والرغبة الجامحة لدى فنانيه الجدد بالتجاوز عبر هدم الراسخ. هكذا، يجمع الألبوم بين حضور "الستاندارد"، أي تلك المقطوعات التاريخية الثابتة المكررة على لوائح عزف موسيقى الجاز، وبين الآڤان غارد Avant-garde، أي التخلي عن الماضويّة والتقليد والتحلّي بروح العصرية والتجريب.
يحتوي الإصدار على مقطوعة أيقونية لشورتر بعنوان Footprints، تتميز بموضوعتها اللحنية العارية ذات الكسور الإيقاعية. تُقدّم بدايةً بواسطة الترومبيت، ثم تُسلَّم إلى الساكسوفون عند إحداثية صوتية تتداخل فيها الخصائص الصوتية المميزة لكل من الآلتين. يُطوّر اللحن عن طريق قفزات هارمونية مينيمالية تأخذ المزاج العام على حين غرة. كما يتناوب الدرامز على بثّ كل من إيقاعات الرتابة والتسخين، خصوصاً عند مصاحبته لارتجالية البيانو.
ثمة "نفرتيتي" (Nefertiti) إصدار سنة 1968. نُفّذ الألبوم بحسب أقصى معايير الجودة الإنتاجية، لجهة نقاء الأداء وانتقاء المؤلفات وحسن المعالجة الصوتية، مناقضاً بذلك النهج الذي اتبعه الخماسي إزاء العزف الحيّ خلال الحفلات، حين آثر الموسيقيون وهم على خشبة المسرح أن يتحرروا من مجمل الضوابط الفنية، محوّلين الحفل الحيّ إلى مختبر تُجرّب فيه أغرب الأفكار الموسيقية وأكثرها خروجاً عن مألوف العصر.
في "نفرتيتي"، ينكفئ ديفيس عن التأليف الموسيقي، ويكتفي بعزف الترومبيت، مفسحاً المجال للوافدين الصاعدين، كـ واين لكي يعرضوا إبداعاتهم التأليفية. كانت للأخير حصة الأسد، حيث قدّم للألبوم ثلاث مقطوعات من أصل ست. Fall من بين أكثرها سحراً، علاوة على أنها تجسّد شخصية الألبوم الهادئة، الليلية والحالمة، التي يكتنفها غموض ساحر. التوافقات النغمية تموج بلطف كالنسائم، فيما الارتجالات من على ترومبيت ديفيس، بيانو هانكوك وساكسفون شورتر، تسلك دروباً لحنية تتأرجح هبوطاً، كأوراق الخريف.
يمكن القول إن العلاقة الفنية التي جمعت واين شورتر بمايلز ديفيس، قد مثّلت حلقة مفصلية في تاريخ الجاز. كأي حلقة من حلقات التاريخ المفصلية، يمكن عند حدودها تلمّس معالم الجدلية بين الحاضر والماضي، بين الآيل إلى زوال والمقبل على التشكّل والولادة.
مذاك بدأ الجاز بالتحول عن مسار الـ بي بوب الذي ميّز عقد الخمسينيات إلى منتصف الستينيات، تلك الموسيقى الملتهبة المندفعة صدىً لديناميكية التصنيع التي حرّكت المجتمع الأميركي بُعيد الحرب العالمية الثانية، لتأتي حقبة جازية جديدة هادئة رصينة، تنزع إلى التأمل والتفكّر، تميل إلى الاختبار والتجريب، سيسميها النقاد والمؤرخون في ما بعد "فيوجن" (Fusion). كأي حلقة مفصلية من حلقات التاريخ، تستدعي مواهب إبداعية جريئة لا تخاف الهدم، ولا تهاب التجاوز. ومن دون شك أن واين شورتر كان من بينها.