يلعب توم كروز في "توب غن مافريك" دور ضابط في الحرية الأميركية يقود طائرة إف-16 للقيام بمهمة خطيرة. كان الفيلم أحد أكثر الأفلام تحقيقاً للإيرادات خلال العام الماضي، لكنّ الحكومة الصينية رفضت عرضه. بدلاً من ذلك، كان الجمهور الصيني في 28 أبريل/ نيسان الماضي على موعد مع إطلاق فيلم "بورن تو فلاي"، والذي يحكي قصة قوات جيش التحرير الشعبي الجوية وتطويرها لطائرات مقاتلة صينية حديثة.
لم تكن محاولات الصين للتفوق على الولايات المتحدة في شباك التذاكر السينمائي علنية دائماً، لكن، وفقاً لإحصاءات مجلة ذا إيكونوميست، فقد نجحت الصين بدفع الأفلام المحلية إلى موقع الصدارة داخل البلاد.
في عام 1986، كتب الفيلسوف الفرنسي ريجيس دوبريه أنّ "هناك قوة أكبر في موسيقى الروك ومقاطع الفيديو والجينز من الجيش الأحمر بأكمله". يُنسب إلى القوة الناعمة الغربية، التي تصدّر عبر منتجات ثقافية مثل الموسيقى والسينما، دور في المساعدة على إنهاء الاتحاد السوفييتي.
اليوم، أعادت العلاقات المتوترة بين الصين والولايات المتحدة الأميركية التذكير بالحرب الباردة. مع سعي القادة الصينيين، بحسب "ذا إيكونوميست" إلى إنهاء النفوذ الغربي. قال الرئيس الصيني شي جين بينغ: "من بين جميع دول العالم، تمتلك الصين معظم الأسباب التي تجعلها واثقة ثقافياً".
من الصعب قياس القوة الناعمة، لكن البيانات المتعلقة بمشاهدات المتفرجين يمكن أن تعطيني أدلة على حالها. ويشير تحليل "ذا إيكونوميست" لمراجعات الأفلام على منصة دوبان إلى أنّ الأفلام الصينية تملك أفضلية في السوق المحلية، مع تراجع حضور السينما الغربية خلال العقد الماضي.
ودوبان هو موقع صيني ينشر المستخدمون عليه مراجعتهم للأفلام التي شاهدوها. وعلى الرغم من أنّ الحكومة الصينية لا تسمح بعرض أكثر من 34 فيلماً أجنبياً في صالات العرض خلال العام، فقد صنّف المستخدمون آلاف الأفلام الأجنبية وكتبوا مراجعات عنها، بعد مشاهدتها باستخدام نسخ مقرصنة على الأرجح.
قامت "ذا إيكونوميست" بتحميل كلّ البيانات المتعلقة بتقييم وعدد مشاهدات 26 ألف فيلم، أنتجت بين عامي 2010 و2022، مدرجة على "دوبان". شكّلت الأفلام الناطقة بالإنكليزية قرابة 10 آلاف فيلم من مجمل هذه الأفلام، إضافة إلى 4500 فيلم أنتجت في الصين، فيما أنتجت معظم الأفلام الباقية في أوروبا وكوريا واليابان. وبلغت نسبة الأفلام الناطقة بالإنكليزية خلال هذه الفترة 43 بالمئة، وجاءت الصين في المرتبة الثانية بنسبة 36 بالمئة، تلتها اليابان بنسبة 6 بالمئة وكوريا الجنوبية بنسبة 5 بالمئة.
لكن اللافت، هو أنّ حصة الصين ارتفعت بين عامي 2010 و2021، من 21 إلى 55 بالمئة، بينما انخفضت حصة الأفلام الناطقة بالإنكليزية من 53 إلى 28 بالمئة.
لم يكن هذا الارتفاع مرتبطاً بازدياد الإنتاج الصيني للأفلام، خاصة أنّ نسبة إنتاجها ارتفعت من 13 إلى 18 بالمئة فقط خلال هذه الفترة. كذلك، لا يمكن ربط ذلك بتحسن مستوى الأفلام الصينية، إذ تدل تقييمات ومراجعات المستخدمين إلى أنّ مستوى الأعمال التي أنتجت في عام 2022، أسوأ من تلك التي أنتجت قبل عقد من الزمن. وبالمتوسط، حصلت الأفلام الصينية على تقييم يقلّ بنصف نجمة عن نظيرتها الناطقة بالإنكليزية، بحسب تقييم الجمهور.
يمكن أن تؤدّي العديد من العوامل مثل التسويق أو الممثلين أو حتّى التغيرات في سلوكيات مستخدمي "دوبان" على التقييمات وعدد مرات المشاهدة.
لكن حصول الأعمال الصينية على تقييمات أدنى، يدلّ على أنّ الصين قد تكون قادرة على التصدي للقوة الناعمة الغربية داخل البلاد، لكنّ منتجاتها الثقافية ليست مؤهلة للمنافسة في السوق العالمي حتّى الآن.
تمكنت الصين من زيادة سيطرتها على السوق المحلية عبر الأفلام ذات الإنتاج الضخم التي تستقطب الجمهور.
تشكّل قائمة الأفلام العشرة الأكثر مشاهدة ما نسبته 27 بالمئة من مجمل المشاهدات كل عام. في مطلع العقد الماضي، هيمنت الأفلام الإنكليزية على القائمة بين العامين 2010 و2014، لكنّها بدأت بالتراجع منذ عام 2015. وبحلول العام 2019، لم يصل سوى فيلم إنكليزي واحد إلى القائمة هو "أفنجرز: أند غيم". شهد منتصف العقد الماضي، صعود العديد من الأفلام الدعائية الصينية الناجحة، التي تنتج بميزانيات ضخمة، ويشارك فيها أشهر الممثلين، ممّا أدّى إلى سيطرة الأفلام الصينية على قائمة الأفلام الأكثر مشاهدة في عام 2020.
تحظى أفلام المغامرة الناطقة بالإنكليزية بالشعبية الأكبر بين الجمهور الصيني، إذ تمثّل ما نسبته 46% من مجمل مشاهدتهم للأفلام الإنكليزية. في المقابل، يفضل الصينيون الكوميديا عندما يتعلق الأمر بالسينما المحلية، والتي تشكل 44% من مشاهدات الأفلام الصينية.
أحد الأمثلة البارزة على ذلك هو "هيلو مستر بيليونير"، وهو نسخة محلية من فيلم "بروسترز ميليونز"، ويحكي قصة رجل يجب أن يصرف مليار وان صيني (ما يعادل 145 مليون دولار أميركي) خلال شهر من أجل تأمين ميراثه.
كذلك، برزت مؤخراً أفلام الدراما المنتجة محلياً، مع فيلم "بتر دايز"، والذي يحكي قصة مؤثرة عن علاقة فريدة بين فتاة مراهقة تتعرض للتنمر وبلطجي. في عام 2021، كان أوّل فيلم صيني يترشّح لجائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي منذ عام 2003.
واكتسب المخرجون المحليون شعبية بين الجماهير من خلال أعمال دعائية، أبرزها "وولف واريور 2"، ثاني أكثر الأفلام الصينية تحقيقاً للأرباح في التاريخ. يروي الفيلم قصة جندي سابق في العمليات الخاصة يخوض معركة في إفريقيا مع زعيم مجموعة مرتزقة أميركي. وكان أحد الشعارات الترويجية للفيلم: "أيّ شخص يسيء إلى الصين يجب القضاء عليه مهما كان بعيداً".
كما برز فيلم آخر هو "ماي بيبول، ماي كاونتري"، والذي يعرض إنجازات الصين منذ قيام النظام الشيوعي عام 1949، واحتل االمرتبة السابعة من بين أكثر الأفلام مشاهدة على دوبان في عام 2019.
وتشير شعبية هذه الأفلام، بحسب ذا إيكونوميست، إلى نجاح أجهزة الدعاية التابعة للحزب الشيوعي الصيني بالتأثير، خاصةً أنّ السينما المحلية تؤثر بشكل متزايد على الطريقة التي ينظر بها جيل من الصينيين إلى بلدهم ومكانه في العالم.