سياسات الحجب وما يسمى بـShadow Banning التي تمارسها منصات وسائل التواصل الاجتماعي، خصوصاً "ميتا" المالكة لـ"فيسبوك" و"إنستغرام"، في ما يخص المحتوى المرتبط بالعدوان على غزة، هي محاولة لتحويل الحق الفلسطيني إلى قضية يمينية عالميّة.
قد تبدو هذه الفرضيّة مبالغاً فيها، لكنها امتداد لثقافة الإلغاء، التي لم تعد تكتفي بتكميم الأفواه، بل بتغيير السياق الثقافي للمدافعين عن الحق الفلسطيني. هكذا فرضيّة تتضح، مثلاً، عندما حجب "فيسبوك" مَن اتهمهم بـ"الذكوريين" و"المؤامراتيين" و"الترامبيين"؛ الفئة الواسعة من الجمهور ذي الآراء التي اتهمت بأنها لا تتلاءم مع الصوابية السياسية، ما خلق فئة واسعة من "المستهلكين" وجدت نفسها، أنها للتعبير عن آرائها، مضطرة للانتقال إلى منصات اشتهرت بدعمها لليمين واليمين المتطرف، كـ"تروث سوشال" التي دشنها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب نفسه، و"رامبل"، إلى حد تحولها إلى منصات المنفيين من وسائل التواصل الاجتماعي التقليديّة.
مثال ما سبق، الممثل البريطاني راسل براند الذي لجأ إلى منصة رامبل لتقديم برنامجه، بمجرد ظهور اتهامات بالاعتداءات الجنسية ضده، وقيام "يوتيوب" بتكبيل انتشار قناته، ناهيك أن سياسة الإلغاء هذه، ومنع "المتهمين" من الظهور على وسائل الإعلام التقليديّة، تركت البعض بين يدي منظري نظريات المؤامرة، كجوردان بيترسون الذي أصبح يُستضاف ضمن برامج مؤامراتية وأصحاب قنوات "يوتيوب"، تروج للأرض المسطحة مثلاً.
ما يهمنا من الأمثلة السابقة، ليس موقفنا من بيترسون أو براند، أو حقيقة الاتهامات التي تطاولهما أو حتى أفكارهما الإشكالية حد الذكورية المفرطة في بعض الأحيان، ما يهم هو تحولهم إلى محسوبين على اليمين واليمين المتطرف، وهذا بالضبط ما تحاول المنصات الكبرى فعله، عبر تقييد الحديث عن الحق الفلسطيني ووصفه بـ"الإرهاب".
هي محاولة لجعل الانتصار للقضية الفلسطينيّة ومقاومة الاستعمار جزءاً من خطاب اليمين، وإدراج الأمر ضمن نظريات المؤامرة والأصوات المتطرفة. هذا السياق الذي تدفع إليه القضية الفلسطينيّة يهدد جديتها، ويدخلها ضمن قائمة نظريات المؤامرة الكبرى، وغيرها من السرديات التي تفتقد المصداقيّة، خصوصاً أن اليسار الأوروبي، عدا أطياف قليلة منه، يقف إلى جانب إسرائيل وحقها بـ"الدفاع عن نفسها"، بالتالي الأصوات التي تنافح عن الوقوف بوجه الاستعمار، قد تتحول إلى أصوات يمينيّة بسبب تأثير شركات عملاقة رأسماليّة، ترى نفسها حارسة لليسار الهوياتي والصوابية السياسيّة، الأمر الذي تقف منصة إكس (تويتر سابقاً) في وجهه إلى حد ما.
بهذا، فإن الحق الفلسطيني، على المستوى منصات وسائل التواصل الاجتماعي وسياساتها، يتحرك بين قطبين؛ هوياتي وإلغائي، يحرص على "قواعد الاستخدام"؛ وآخر شديد الانفتاح، يرى الموقف من القضية الفلسطينية بوصفها أمراً ضمن الصراع لأجل حرية تعبير. وفي كلا الحالتين، نحن أمام شركات، وليس فضاءات عامة. لا يخفى، أيضاً، أن مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي على وعي بهذا، إذ يعاد يومياً نشر مقاطع مصورة لنعوم تشومسكي وناجين من الهولوكوست وغيرهم، يتحدثون فيها عن الحق الفلسطيني، والنظر إلى القضية الفلسطينية بوصفها جزءاً من حركات التحرر من الاستعمار، ليس مجرد "إرهاب" لا بد من محاربته. إعادة نشر هذه المقاطع، يهدد الصوابية السياسية المهيمنة، والسعي إلى توحيد الأصوات المعادية للحق الفلسطيني.
لا بد أن نذكر أيضاً أن المنصات التي تحولت إلى مرتع لليمين المتطرف، على دراية بأن تلك الفئة المنفيّة من الجمهور التقليدي بحاجة لمتنفس، هم بالنهاية مستهلكون لا بد من "الربح" على حسابهم، وهذا بالضبط منطق الرأسماليّة؛ كل مساحة يمكن الاستثمار بها، مهما كانت أفكارها، وتوجهاتها فمجرد الموافقة على شروط الاستخدام. يعني أننا أمام مستهلك جديد، فمنصة رامبل مثلاً، قررت حجب خدماتها في فرنسا، كون الأخيرة طلبت منها شروطاً محددة على المحتوى، بالتالي، تحولت حرية التعبير إلى سلعة، وإلى معادل في بعض الأحيان لليمين المتطرف.
ضمن السياق السابق، يبدو الحق الفلسطيني أمام معركة سرديات وشركات كبرى، ومحاولة لنقل الخطاب بين مساحات ومنصات، تهدد هذا الحق بسبب السياقات التي تستضيفها، وهذا بالضبط، شكل المعركة في الفضاء الرقمي، تبدأ من تغيير أشكال الكلمات، مروراً بتوجهات منصات التواصل الاجتماعي والسياقات التي تستضيفها ومساعيها لمراكمة الربح.