الحاصلُ في فلسطين حالياً يؤكّد، مُجدّداً، قولاً لجان ـ لوك غودار، أمام صورتين فوتوغرافيتين قديمتين، تلتقط الأولى يهوداً ذاهبين بحراً إلى فلسطين، أو "الأرض الموعودة" كما يُعلِّق السينمائيّ؛ والثانية لفلسطينيين يغادرون، بحراً أيضاً، "إلى الغرق". هذا عائدٌ إلى عام 1948. يقول غودار بعد تعليقه هذا: "اليهود يلتحقون بالمتخيّل (الروائيّ)، والفلسطينيون بالوثائقيّ".
يُستعاد التعليق الآن، بعيداً عن أي تفسير غوداريّ، يمتزج فيه الواقع والتاريخ بالسياسة والاحتلال، والفنّ بالأخلاق. ما يصنعه فلسطينيّو القدس وغزّة، ومدنٍ أخرى، يرتقي بالفنّ إلى مصاف الوثائقي، أي الواقعي، فالبلد لهم، والواقع يصنعونه، والتوثيق يحضر، فوتوغرافياً وأشرطةً. الوثائقيّ واقعٌ. الروائي متخيّل، وإنْ يستند إلى واقع.
التعليق الغوداريّ خبيثٌ، وخبثُه سينمائيٌّ جميلٌ وحقيقيّ. الصورة الفوتوغرافية تترافق وتسجيل أشرطة. الوجوه المبتسمة لفلسطينيات وفلسطينيين، الموثّقة بصُور وأشرطة، تُحيل الواقع إلى فعلٍ، يُساهم في معركة صمودٍ وبقاء. الوثائقيّ يؤكّد حقّاً للفلسطيني في بلده وأرضه وتاريخه وذاكرته وراهنه. الوثائقيّ يصنع معجزة البقاء، وبهاء الصمود. الآلة الإسرائيلية قاتلة، وهذا معروف. لكنّ الفلسطيني يعي أنّ المواجهة قدرٌ، وعلى المواجهة أنْ تلتزم موقفاً أخلاقياً، يتجلّى بقولٍ لمُقاتل فلسطيني، يظهر في فيلمٍ تسجيليّ قديم، يستعيده مهنّد اليعقوبي في "خارج الإطار، ثورة حتّى النصر" (2016): "لا يستطيع أيُّ مقاتل أنْ يُواجه آلة حربية، كالتي يمتلكها الإسرائيليون، ما لم يكن هذا المقاتل يملك قضيةً عظيمة يُقاتل من أجلها. حبُّنا الكبير لوطننا أكبر من كُرهنا لعدوّنا. الحب دافعنا لا الكراهية. لهذا السبب، سننتصر".
المسألة الأخلاقية غير معنيّة بأي تخاذل أو تراجع. الحبّ غير مرتبط بخضوع أو استسلام. المُقاتل ليس حامل سلاحٍ فقط، يريد استعادة بلدٍ وأرضٍ وتاريخ وشعبٍ. كلّ فردٍ مُقاتل، بحجرٍ أو تشبثّ بمنزل أو نظرة تحدٍّ أو توثيق لحظة. العيون ـ التي تُتوِّج ابتسامات فلسطينيات وفلسطينيين يعتقلهم جنود الاحتلال ـ تقول أخلاقاً وحبّاً أقوى من كلّ قيدٍ. الانتصار غير محسوم، فالقاتل وحشٌ، ومن يُسانده، دعماً أو قولاً أو مالاً أو صمتاً، أكثر وحشية منه. لكنّ الحبّ باقٍ، وفعل الحبّ أكثر وعياً من جهلٍ وحقدٍ وعماء. الحبّ والابتسامات، كذاك النور المُشعِّ من العيون، يستفزّ القاتل، ويدفعه إلى مزيدٍ من عنفٍ، يعتاده الفلسطينيون والفلسطينيات، ويصمدون أمامه بأنواعٍ شتّى. الحبّ فيهم يجب أنْ يكون أقوى من عنف القاتل. يجب أنْ يبقى، وهذا ليس انكفاءً أو قبولاً بمهانة، فالحبّ هذا لن يكون ضربة على خدٍّ أيمن ثم أيسر، بل فعل حياة أقوى من وحشية القاتل وجنونه.
هذه ابتسامةٌ وذاك نور. لكنْ، هناك أيضاً دمع وقلق. هذا طبيعي. هذا حقيقيّ. هذا يوثِّق راهناً، فيصنع حياةً.
أكتبُ هذا في منزلٍ، في مدينة بعيدة عن عنف الإسرائيليّ ووحشيته، وعن بهاء الابتسامة الفلسطينية والنور الساطع من عيون شابّة، تقول إنّ الحاصل سيُقوّي عزيمة البقاء والتحدّي، وإنْ تأخّر الانتصار. أكتبُ. لا شيء أملكه سوى الكتابة. أما الفعل الحقيقي، فهناك، وهناك يُدعَون فلسطينيين وفلسطينيات، وهذا كافٍ.