نهى المعداوي: لديّ دائماً فضول التعرّف على الناس وسماع حكاياتهم

08 اغسطس 2022
نهى المعداوي: تخبّط وتشوّش منذ "ثورة 25 يناير" (العربي الجديد)
+ الخط -

 

بسبب نشأتها في عائلة سينمائية، قرّرت منذ طفولتها أنْ تصبح مخرجة. إنّها حفيدة النجمة المصرية كوكا، التي بدأت حياتها المهنية مونتيرة في "استديو مصر"، ثم اشتهرت بأفلامها البدوية، بعد زواجها من نيازي مصطفى، أشهر مخرجي الخِدَع في تاريخ السينما المصرية. تقول الحفيدة نهى المعداوي: "كوكا عمّة أمي، التي ربّتها، لأنّ جدّي والد أمي، الأخ الوحيد لكوكا، توفّي في عمرٍ صغير، تاركاً 6 أبناء، تولّت كوكا، جدّتي، تربيتهم جميعاً في بيتها كأنّهم أبناؤها، هي التي لم تنجب. زوجها، المخرج نيازي مصطفى، قريبنا، من العائلة نفسها. نشأت والدتي في هذا الجوّ، وأنا أيضاً أمضيت طفولتي الأولى في منزل جدّيّ كوكا ونيازي. لذا، كانت الحكايات عن السينما والأفلام جزءاً من تكويني وروحي، وكانت والدتي جمهوري في صغري. كنتُ أحفظ أفلام جدّتي كوكا، وأمثّلها وأنا صغيرة".

رغم ذلك، ومع أنّها متحدّرة من عائلة لها دور مهمّ في المشهد الثقافي المصري، لأعوامٍ عدّة، لم تتمكّن نهى المعداوي من الالتحاق بـ"معهد السينما" للدراسة فيه، علماً أنّ والدها رفض التدخّل لمصلحتها، فدرست الإعلام، ثم عملت في التلفزيون. لاحقاً، حاولت مجدّداً مع "معهد السينما"، فبلغت المرحلة النهائية من الامتحانات. لكنْ، رغم شهادة مخرجين لها وحماستهم لها، كالسيد سعيد وعلي بدرخان، لم تُقبل هذه المرّة أيضاً، فانهارت نفسياً، كأنّها نهاية العالم.

فيما بعد، تطوّرت التكنولوجيا، وظهر الـ"ديجيتال"، وبات هناك مصطلح "السينما المستقلة"، وتأسّس كيانٌ باسم "سمات للسينما المستقلّة"، الذي فتح ثغرة مهمّة لصناعة الأفلام بتكاليف قليلة، فانفتح أمام نهى المعداوي وآخرين باباً بديلاً لتحقيق أحلامهم في صناعة الأفلام، بعيداً عن الصناعة التقليدية.

أخرجت المعداوي أفلاماً عدّة، منها "في الليل" و"الفصول الأربعة"، مع وِرش "سمات" وهالة جلال، التي أتاحت فرصاً كبيرة لشبابٍ يحلمون بصناعة الأفلام، بعيداً عن القوانين القاسية للسوق. قبل ذلك، ظلّت نهى المعداوي، لأعوامٍ، تُصوّر بجهودها الذاتية فيلمها الأول "حكايات عادية"، الذي ظهر عام 2011: عن تجربة الغربة وعدم الانتماء، من خلال أسر مصرية، سافرت إلى دول خليجية مختلفة، ثم اضطرّت للعودة إلى وطنها. نجحت المعداوي في الغوص عميقاً في دواخل الأسر وأفرادها، كاشفةً طبقات الغربة في الوطن وخارجه، والثمن الفادح نتيجة ذلك. كأنّها تضع الجميع أمام مرآة الذات. بالإضافة إلى قوّة المضمون، هناك مُعادل بصري يكشف بوضوح موهبتها.

أحدث أفلامها وثائقيّ عن مرضى ألزهايمر، بعنوان "برّه الدنيا". السمة البارزة التي تجمع أعمالها كامنةٌ في أنّها تستمد معظم أفكارها من تجارب ذاتية، أو تُعبِّر عن مخاوفها وهواجسها، كما تميل إلى التجريب والابتكار، حتّى أنّه يصعب أحياناً تصنيف أفلامها في الإطار التقليدي، أو وضع حدود فاصلة بين الوثائقي والروائي والتجريبي.

بمناسبة "برّه الدنيا"، حاورتها "العربي الجديد":

 

(*) هل لجأتِ إلى تحريك الشخصيات المريضة، وتوجيهها؟ هل كانوا شخصيات حقيقية، أم ممثلين؟

شخصيات الأبناء حقيقية. لديهم مريض، أم أو أب، يعاني ألزهايمر. لكنّي استعنتُ أيضاً بممثلين، لأداء مَشاهد تمثيلية.

 

(*) لماذا؟

لأنّه، أخلاقياً، لا يصحّ تصوير مريض، خاصة إذا كان مُضطرباً عقلياً، لا يُدرك أنّه يُصوَّر. هذا يُعتبر استغلالاً لحالة من لا يُدرك اضطراباته، ولا يستطيع رفض تصويره أو قبوله، لذا قرّرتُ الاستعانة بممثّلين.

 

 

(*) في "الطريق"، قدّمت طلقة رصاص بشخصية عاليا الابنة، بجرأتها في الحكي عن معضلتها مع والدتها بهذه الشجاعة والتلقائية المُبهرة. كيف نجحت في كسر الحواجز بينكما؟

هناك شيء مهمّ يساعدني: لديّ دائماً فضولٌ في أنْ أتعرّف على الناس، وأسمع حكاياتهم. أنا مستمعة جيدة، قليلة الكلام جداً. في لقاءاتي مع عاليا، اقتربت إحدانا من الأخرى، وعرفت حكايتها مع التصوّف، فعرضت عليها المشروع. قبلت التصوير. باختصار، هذه حكاية فتاة، اختياراتها مُتخبِّطة، نتيجة أنّ اختيارات أمّها في الحياة مُتخبِّطة أيضاً، فسبّبت لابنتها ارتباكاً شديداً في حياتها ومشاعرها ومُعتقداتها.

 

(*) كأنّ هذا الارتباك قادها إلى رحلة البحث عن الطريق، التي أعتقد أنّها، أساساً، الحبّ.

نشأت عاليا مع أمّ مُتمرّدة، من طبقة أرستقراطية. تمرّدت الأم على طبقتها بالزواج من شاب يساري مُلحد، واختارت الطريق نفسها. الزيجات المتعدّدة للأم من رجالٍ مختلفين، في توجّهاتهم وميولهم الفكرية والعقائدية، سبّبت حالة غضب شديدة لدى ابنتها، فكانت علاقتهما شديدة الارتباك. في مراهقتها، تقرّبت الابنة من أستاذها المتصوّف، لأنها حُرمت من الأب وهي صغيرة بسبب طلاق والديها، ثم موته. اعتنقت عاليا أحد المذاهب الصوفية، مُقلّدة أمها. هذا أوجد انسجاماً بينهما، كما تدعي عاليا، أو كما تعتقد.

 

(*) أسلوب السرد في أفلامك يشي بأنّك تحبّين التجريب، وأقوى نموذج "في الليل"؟

يُربكني الحديث عن "في الليل" دائماً وجداً، لأنّ هذا الفيلم تحديداً صعبٌ جداً عليَّ. أنجزته عام 2012، في فترة تشوّش وارتباك نفسي بدأت فيّ منذ "ثورة 25 يناير 2011". على المستوى العام، البلد كلّه فى حالة تخبّط حينها، ولا توجد طريق واضحة لأي شيء. هذه الحالة أثّرت عليَّ أثناء صناعة الفيلم.

 

(*) كيف بدأت فكرته؟

كنتُ في ورشتين لصناعة الأفلام، مع "سمات" و"أتيليه فاران". آنذاك، قرّرت أنّي سأنجز أفلاماً عن أحلامي وهواجسي. كانت لدي رغبة قوية في تجسيد هذا الارتباك والتخبّط الشديدين فيّ، والتعبير عن انفصالي عن الواقع الراهن، المرتبك أيضاً، خاصةً أنّي مرتبطة جداً بعالم الأحلام وتأويلاته.

 

(*) مدخلك إلى الهواجس، والتعبير البصري عنها، ثم مزجها مع لقطات أرشيفية لفيلمٍ روائي بالأسود والأبيض، بطولة كوكا، ثم الخروج منه بذكاء، رغم التناقض، إلى لقطات لميدان التحرير والمطالبة بالشرعية. كيف وصلت إلى هذا القرار في البناء الفيلمي؟

اتّبعت الأحلام، لا منطقها. أردتُ إنجاز فيلمٍ بأحلامي فقط. اخترتُ التحدّث إلى أبي عن أحلامي، لأننا نتشارك في هذا العالم بقوة. أحياناً، كان أحدنا يسرد أحلامه للآخر. اخترتُ هذا المشهد بيني وبينه، بشكل عفوي جداً.

 

(*) كأنّ المحادثة مع الأب فتحت باباً كان مُغلقاً على الكوابيس والمخاوف. أم أنّك اخترتِ اللقاء للحديث عن مخاوفك؟

الافتراضان صحيحان، ويتداخل أحدهما في الثاني جداً. في البداية، صوّرت الأحلام، ثم اخترتُ أنْ يبدأ الفيلم بحديثي مع أبي عن المخاوف والأحلام، خاصةً أنْ لديّ دائماً مخاوف عميقة، ورعباً من الفَقد، وموت أبي. مع أي عارض صحي يحدث له، أحلم بأنّي أفقده. هذا جعلنا دائماً، عندما نستيقظ صباحاً، نتحدّث عن أحلامنا. كان هناك رابط روحي، ونوع من التخاطر الغريب جداً بيننا، ما جعلني، في فترات من حياتي، أذهب إلى طبيب نفسي أسأله عن الأحلام والكوابيس، وعن حلمي بأبي كثيراً، وأنا أفقده أو أدفنه، أو أنه يغرق في البحر، بينما أحاول أنْ أعوم وأحمل جثته.

 

(*) يبدو المشهد بينكما بسيطاً. لم نرَ وجهيكما، لكنّ المتلقّي يشعر بأنّه قريبٌ جداً منكما. المشهد رقيق، فيه حنان وصدق.

أردتُ، منذ البداية، ألا نظهر، أبي أو أنا، فى المشهد. فقط يدي ويده في عملية تنظيف الأظافر والتدليك، والحديث عن الأحلام. بدأ الفيلم أصلاً من حلم خياطة الخبز. كلّها أحلام حقيقية. حتّى حلم الميدان حقيقي، رغم أنّ لا علاقة له ببقية الفيلم. لكنْ، كما ذكرتُ، كنتُ فعلاً أمرّ بمرحلة تشوّش غريب فى عقلي، والأحلام آنذاك تُسيطر عليَّ.

 

(*) ماذا عن تطوير الفكرة؟ هل تمّت عبر عصف ذهني بينك وبين الفريق الفرنسي في الورشة؟

تطوّرت الفكرة فيّ. لم يُساعدنى أحد. الفريق الفرنسي لم يتدخّل في أفكار الأحلام، أو طريقة التصوير. مشهد سرد أحلامي مع أبي المشهد الوحيد الذى تناقشنا فيه. أكثر مشهد خفت منه جداً. ظللتُ أؤجل تصويره طويلاً، لخوفٍ فيّ من الحديث مع أبي حول موضوع الأحلام، رغم اهتمامنا المشترك. هذا المشهد كشف لي أيضاً، بعد ذلك، عن مدى العلاقة الخاصة جداً التي كانت تربطني بأبي حتى رحيله. علاقة أعتقد أنّ فيها بعض التعقيد.

 

 

(*) الشباب على الدراجات البخارية، في مشهد المطاردة خلف السيارة وأمامها أحياناً. هذا مشهد روائي؟

بالفعل، إنّه مشهد روائي، خطّطت له عمداً، وصُوّر خصيصاً للفيلم. اتفقت مع هؤلاء الشباب عليه، لقاء أجر مدفوع. حدّدتُ مكان التصوير وطريقته، وصوّرته أكثر من مرة مع الشباب أنفسهم، فى اليوم نفسه، والمكان نفسه، لكنْ من زوايا مختلفة.

 

(*) مشهد هؤلاء الشباب المراهقين على الدراجات البخارية كأنّه للغواية. ما يُؤكد ذلك، الخروج منه إلى لقطة تمثال العروس، المانيكان، تلفّ بها الدنيا، كأنّها تبحث عن الحب؟

أُحيّيكِ على تحليلك هذا، لأنّه صحيح للغاية. لم أفكّر في سؤالك أو طرحك وتحليلك المشاهد، ثم أفكّر فيها من أعماقي، فأجدها صحيحة. لكنْ، عند التصوير، لم أُدرك وأفهم، بوضوح، لماذا أصوّرها، ولماذا اخترتُ ترتيبها بهذا الشكل. عامة، في الإخراج، خاصة هذا الفيلم، لم أكن أبحث أو أفكر في رمزية المشاهد أو دلالتها. أتذكّر أيضاً أنّه في مناقشاتي معه، كان المونتير الفرنسي يقول لي إحساسه بالمشاهد المُصوّرة. تحليله قريبٌ جداً من تحليلك. لكنْ، صدقاً، أصوّر دائماً بتدفّق. في التصوير، أسير وراء حدسي وإحساسي.

 

(*) إذن، مشهد سيرك على الجسر وأنتِ ترتدين فستان الزفاف، أكان حلماً، بالفعل؟

نعم، كان حلماً أيضاً. استمتعتُ بتنفيذه وتصويره، رغم أنّ المُصوّر كان متخوّفاً جداً. أما أنا، فكانت لديّ شجاعة تجسيده بنفسي. كما فعلت بمشهد "الحجامة". كان كابوساً، رأيتُ فيه خروج كتل دماء من جسمي، كأنّه أصبح فارغاً، وأعضاء جسمي تلاشت. كان حلماً صعباً جداً، وتنفيذه يحتاج إلى إمكانيات كبيرة، فاخترتُ الخضوع لعملية "الحجامة"، وتصويرها كنوع من الاقتراب مما في خيالي.

 

(*) شريط الصوت في فيلم "في الليل" من تصميم الفرنسي دافي ج. تريتياكوف، المميّز جداً. الموسيقى بطل رئيسي، خاصةً في لقطة الشباب والدراجات. الاختيار بديع، لأنّها تُكثّف الشعور بالمطاردة. هل دارت مناقشات بينكما؟

شاركني دافيد، مونتير الفيلم، اختيار الموسيقى. بل له فضل كبير في مساعدتي في اختيار الموسيقى، التى صنعت تأثيراً قوياً. قدّم اقتراحات، وطلبتُ منه أنْ نركّب مونتاجياً المشهد، كلّ مرة، مع شريط الصوت المقترح، ونتفرّج عليه معاً بعد تركيب شريط الصوت المقترح. أمام شاشة المونيتور، أركّز جداً على المشهد، وأترك الأمر لإحساسي تماماً. ركّبنا شريط الصوت أكثر من مرة. إحساسي وحدسي جعلاني أختار شريط الصوت المناسب.

المساهمون