على الرغم من انتهاء التواصل من طريق التلغراف مع بداية القرن الحادي والعشرين في معظم دول العالم بسبب ثورة الاتصالات والإنترنت وانتشار تطبيقات الهواتف المجانية، فإنه لا يزال موجوداً في مصر، باعتباره الوسيلة القانونية المعتمدة لإثبات عدد من المراسلات الحكومية كالشكاوى وتبليغ الموظفين للمصالح التي يعملون فيها بالإجازات المرضية، وكان في الماضي يستخدم للإبلاغ السريع عن الأخبار الصحافية والعسكرية والحوادث الاجتماعية المهمة والتهاني والتعازي وغير ذلك.
وكانت فرنسا الحاضنة الأولى للتلغراف قد أرسلت، بعد أكثر من قرن ونصف، آخر برقية تلغراف في 30 مارس/آذار 2018 في الساعة 23.59، كان نص الرسالة هو: "أُرسلت آخر برقية تلغراف"، ثم شرطة (-) ثم نقطة (.).
معنى برقية
على الرغم من البطء الشديد الذي يلاحظه المعاصرون في وصول رسائل التلغراف بصورته العتيقة، فإن هذا الأمر كان مختلفاً تماماً في عصر ما قبل الإنترنت، حين أطلقوا على رسائل التلغراف اسم "برقية"، نسبة إلى البرق، وعُرب اسم جهاز التلغراف إلى جهاز البرق، نظراً لسرعته الفائقة في توصيل الخبر إلى المتلقي، بعد عهود طويلة من الرسائل التي كانت تنقل مع الرسل والرحالة والقوافل، أو من خلال محطات تمركز الخيول المكلفة توصيل الرسائل، وبواسطة الحمام الزاجل.
التلغراف البصري
في أواخر القرن الثامن عشر كان نابليون بونابرت قد استفاد كثيراً في حروبه من التلغراف البصري أو الهوائي (السيمافور) الذي اخترعه الأخوَان رينيه تشابي وكلود تشابي سنة 1791، وكانت فكرته تقوم على التقاط إشارات بصرية عبر أبراج تُترجَم إلى كلمات ثم عبارات، وكانت أول تجربة عبارة عن رسالة من رينيه إلى أخيه تشابي يقول فيها: "إذا نجحتَ فسوف تستمتع قريباً بالمجد". وقد كان النجاح باهراً، واستمر الأخوان في تطوير نظامهما، لدرجة أن الرموز كانت تصل بين مدينتي باريس وليل عبر 22 محطة في دقيقتين، وبين باريس وليون عبر 99 محطة في 9 دقائق.
وفي نهايات القرن الثامن عشر بلغت طول شبكة التلغراف الهوائي في فرنسا أكثر من 5,000 كم، تربطها 534 محطة. أصدرت حكومة فرنسا قانوناً عام 1837 باحتكار شبكة التلغراف بعد قضية تجسس شهيرة على الشبكة، إذ اخترق اثنان من رجال الأعمال شفرة الرسائل المتعلقة بالبورصة، هما التوأمان لويس وفرانسو بلانك. فقد أسسا شركة لتداول الأسهم في مدينة بوردو، وحصلا على معلومات خطيرة وسريعة جداً بشأن صعود الأسهم وهبوطها، استثمراها في زيادة الأرباح وفي المقامرة، وحقّقا ثراءً فاحشاً بين عامي 1834 و1836، وذلك في الوقت الذي كانت فيه عائلة روتشيلد، العائلة الاقتصادية الأشهر في أوروبا، تستخدم الحمام الزاجل لنقل الأخبار الأساسية بين مكاتبها.
شبكة محمد علي
يقول أستاذ الجغرافيا السياسية في جامعة القاهرة عاطف معتمد عبد الحميد إن اختراع التلغراف الهوائي غيّر من مسيرة حروب نابليون في أوروبا بفضل سرعة نقل الأخبار. وحين جاء الفرنسيون إلى مصر لم تكن هذه الوسيلة معروفة، وعندما خرج الفرنسيون وصعد محمد علي باشا للسلطة وبدأت الأمور تستتب له، إذا به يوافق على اقتراح فرنسي اعتبر أهم ثورة بريدية في البلاد آنذاك، وهو إقامة 19 برج إشارة تلغرافية بين القاهرة والإسكندرية.
كانت الأبراج تستخدم إشارات معلقة في الهواء بأذرع خشبية أو معدنية، حيث يعطي كل رمز من حركتها حرفاً من الحروف التي تُجمع معاً لتكوّن كلمة أو عبارة. متوسط المسافة بين كل برج وآخر نحو 10 كم. وكانت العلامات والإشارات تنقل من برج إلى آخر عبر تلسكوب ينظر منه أحد العمال المدرَّبين، فيرى الإشارات والعلامات الرمزية فينقلها لزميله في ذات البرج، فيعيد الأخير ضبط إشارات برجه، لتنقل إلى البرج التالي الذي يتابع الرصد بنظارة التلسكوب أيضاً.
كانت الرسالة التي ترسل من القاهرة إلى الإسكندرية أو العكس تستغرق 40 دقيقة فقط، وهو ما عدّ آنذاك فتحاً جديداً في وسائل الاتصال.
اختراع مورس
بعد تلغراف تشابي استمرت محاولات الابتكار والتطوير بأشكال مختلفة، وفي حدود نصف قرن كانت ثورة كبرى في عالم الاتصالات قد حدثت بفضل صموئيل مورس الذي اخترع التلغراف الكهربي بعد تمويل من الحكومة الأميركية، حيث شهد عام 1844 وصول رسالة تلغرافية كتبها مورس هذا نصها: "ماذا أنزل الله علينا؟". بعد ذلك، طوّر مورس جهازه بعد أن اخترع شفرة خاصة به (شفرة مورس) وهو نظام أكواد تُترجَم إلى اللغة الإنكليزية بعد وصولها إلى جهاز الاستقبال.
بعد مرور 10 سنوات على اختراعه بدأت صناعة الاتصالات نشاطها في مصر، حيث شهد عام 1854 افتتاح أول خطوط التلغراف بين محافظتي القاهرة والإسكندرية تحت اسم سلطة البرق والهاتف، فيما شهد عام 1881 تركيب أول خط هاتفي بين المحافظتين.
ومن طرائف دخول التلغراف للبلاد العربية ما حدث في الحجاز من اعتراض بعض المشايخ على الملك عبد العزيز الذي قرر إنشاء أول شبكة تلغراف في الحجاز، يقول حافظ وهبة، مستشار الملك في كتابه (تاريخ جزيرة العرب في القرن العشرين): "أوفدني جلالة الملك للمدينة سنة 1346هجري (1928) مع عالم كبير من علماء نجد للتفتيش الإداري والديني، فجرى ذكر التلغراف اللاسلكي، وما يتصل به من المستحدثات، فقال الشيخ: لا شكّ أن هذه الأشياء ناشئة من استخدام الجن، وقد أخبرني ثقة أن التلغراف اللاسلكي لا يتحرك إلا بعد أن تُذبح عنده ذبيحة، ويُذكر عليها اسم الشيطان، ثم أخذ يذكرُ لي بعضَ القصص عن استخدام بني آدمَ للشيطان، ولم يكن لشرحي لنظريةِ التلغراف اللاسلكي وتاريخ استكشافه نصيبٌ من إقناعِ الشيخ، فلم أجد أي فائدة من وراء البحث. فسكتُّ على مضض". ويضيف وهبة أن عامل المحطة أخبره "بأن المشايخ الصغار كانوا يترددون عليه من وقت لآخر لسؤاله عن موعد زيارة الشياطين، وهل الشيطان الكبير في مكة أو الرياض؟ وكم عدد أولاد الذين يساعدونه في مهمة نقل الأخبار؟ فكان يجيبهم بأن ليس للشيطان دخل في علمه، وكان بعضهم يغريه بالنقود وأنهم سيكتمون هذا السر".