في اليوم السادس من شهر فبراير/شباط الجاري، أصدرت عازفة الفلوت والناي السورية الفرنسية، نسيم جلال، ألبوماً جديداً برفقة فرقتها الموسيقية متعددة الجنسيات، "إيقاعات المقاومة"، التي قامت بتأسيسها قبل عشرة أعوام. حمل العمل الجديد عنوان UN AUTRE MONDE (عالم آخر). وهو ثالث ألبوم تصدره الفرقة بعد "أسلوب حياتي" و"الموت ولا المذلة".
وبالنسبة لإصدارها الجديد، فهو يتكون من قرصين، يتألف الأول من سبع مقطوعات تم تسجيلها داخل الاستوديو، وأما القرص الثاني؛ فقد تم تسجيله في بث حي برفقة الأوركسترا الوطنية في بروتاني، تحت قيادة زهية زيواني، ويتكون بدوره من خمس مقطوعات، ثلاثة منها حديثة التأليف؛ علماً أن جميع المقطوعات من تأليف نسيم جلال، التي تؤدي أيضاً على آلتي الفلوت والناي، ويرافقها مهدي شايب على الساكسفون، وكريستين هوشبفيل على الغيتار والتشيلو، ودارميان فاريون بموسيقى الباس، وأرنولد دولمين على الدرامز.
تذكر جلال في تقديمها لألبومها الجديد، أنها أرادت فيه أن تؤسس عالمها الخاص، المكوّن من لغات ومساحات جغرافية مترامية الأطراف، وذلك بعد أن سبق وتحدثت بألبوميها السابقين عن نفسها وعن العالم الكائن الذي يعيش بداخلها، وتعيش بداخله، والذي تصفه بأنه عالم مجنون معجون من العنف المتطرف والجمال العظيم.
تقول جلال في عرضها التقديمي إن "هذا العالم هو الذي يلهمني وسيستمر بإلهامي. واليوم، عندما نشعر جميعاً أننا في نهاية عصر الرأسمالية التي ظلت خلال قرنين من الزمان تميل إلى تحقيق الأرباح، على حساب حياتنا، وبات ذلك يهدد بقاء الجنس البشري، أصبحت الفجوة، غير اللائقة على نحو متزايد، والتي تفصلنا عن السلطة السياسية والمالية، ترهقنا وتحبطنا؛ فحرياتنا الفردية وحقوقنا الاجتماعية آخذة في الاختفاء، والثورات تنفجر في كل مكان، كما أن معارضة الناس للقمع العنيف تولّد في الكثير من الأحيان المزيد من الصعوبات التي نواجهها في العيش مع العزلة، وتولد خوفاً تتجذر فيه الأيديولوجيات الفاشية القائمة على كراهية الأجانب، لذلك نشعر جميعنا أنه يتعين علينا تخيل عالم آخر. لذلك، أردت استكشاف مناطق جديدة بالإحساس والصوت، وحاولت من دون كلل المزج بين الجماليات والتقاليد للسماح لـ Un autre monde بالازدهار". وفي لقاء خاص أجرته "العربي الجديد" مع نسيم جلال، دار الحوار الآتي.
- ما هو العالم الآخر بالنسبة لنسيم جلال؟
* إنه العالم الذي أحلم به؛ عالم الغد، عالم مفتوح، حدوده قابلة للاختراق ومتغيرة، بهويات متعددة ومختارة. هو العالم البعيد حيث تصبح علاقتنا مع الأحياء قائمة على التوازن وليس على الافتراس، حيث يتم تحرير خيالنا من القيم المادية. إنه العالم الآخر الذي يمكن أن نعيش فيه، إذا لم تمنعنا الحروب والكراهية والمال من تشكيله في أحلامنا، وفيه تكون الموسيقى التي أؤلفها جزءاً أساسياً من تكوينه، والتي تسير بثلاثة اتجاهات: الاتجاه الأول هو ضد العنصرية، والثاني لحماية البيئة، والاتجاه الثالث هو حلمي الأكثر خيالية والمرتبط بالعالم الآخر.
- ما هي الحدود التي ترغبين باختراقها بعالمك الخاص الذي تصوغينه بالموسيقى؟
* أحاول منذ زمن بعيد أن أكسر الحدود. لا أؤمن أبداً أن الحدود لها شرعية، لا بالجغرافيا ولا بالموسيقى ولا بالفنون. في كثير من الأحيان، يسألونني عن نوع الموسيقى التي أقدمها، هل هو جاز أو موسيقى عربية أو غير ذلك؟ لكنني لا أرغب بتأطير حدودي الفنية، لأني أؤمن أن العالم بلا حدود سيكون مريحاً أكثر. لا أنكر بالطبع وجود حدود طبيعية، كالأنهار والجبال والبحار، وحدود ثقافية تعطي طابعاً خاصاً لكل مكان، لكن هذه الحدود التي يمكن قطعها لا تزعجني. إن ما يزعجني هو الحدود التي تحجمك وتعيق حركتك وتسيطر عليك.
- هل يعني ذلك أن الموسيقى التي تقدمينها هي عابرة للحدود ولا يمكن تصنيفها؟
* إن شكل الموسيقى التي أقدمها هو أقرب للجاز، لكن مصادر إلهامي متنوعة، ففيها موسيقى عربية كلاسيكية، وموسيقى تراثية منوعة من سورية وبلاد المغرب، بالإضافة إلى الموسيقى الهندية الكرناتيكية والهندوستانية، التي تؤثر بي كثيراً، وكذلك أتأثر بالموسيقى الأفريقية الغربية، القادمة من مالي والسنغال. هذا التنوع بهويتي الموسيقية يرتبط غالباً بكوني عملت مع فنانين من معظم أنحاء العالم، مع فنانين أفرو- أميركيين، وفنانين من مالي والسنغال والهند وغيرها، وكل منهم يميل إلى أنماط موسيقية مختلفة، كـ الفولك والهيب هوب وغيرها؛ كما أنني عشت في مناطق عديدة، فعشت لبعض الوقت في مصر وسورية ولبنان وفرنسا. لذلك هويتي الموسيقية تشبه هويتي بتنوعها، ولأنني في كل لقاء مع موسيقي مختلف كنت أكتسب جزءاً من هويته وموسيقاه، تمكنت من تطوير الموسيقى التي أقدمها. والعالم الآخر الذي أحلم به هو عالم يشبه موسيقاي.
- لنعد خطوة إلى الوراء. اخترتِ لألبومك الماضي "الموت ولا المذلة"، الذي قدمته عام 2016، عنواناً مستقى من شعارات الثورة السورية. ما الذي اختلف منذ ذلك الوقت؟ حتى تعودي بألبوم يبدو أكثر تناغماً مع قضايا العالم الأول، تحتل فيه البيئة المكانة الأبرز بالفيديوهات المصورة، وتهيمن عليه تخيلاتك عن عالم آخر بعد أن كان الواقع السياسي له دور أكبر؟
* لم يختلف شيء، دائماً أصنع موسيقى عن تكسير الحدود، لذلك أتقاطع مع الثورات العربية بشعاراتها وأفكارها. ربما يجدر بي أن أشير هنا إلى هويتي الثنائية، فأنا فرنسية- سورية، قربتني الثورة السورية من بلدي الأم أكثر، وقضيت وقتاً طويلاً ما بين عام 2011 و2014 في بيروت، وكنت حينها أكثر اقتراباً من المسألة السورية وكل المسائل التي تحدث في العالم العربي. ومنذ عام 2015، أنا مستقرة في فرنسا، التي أنتمي إليها أيضاً وولدت بها. لذا، فإن القضايا التي أطرحها كالعنصرية ومسألة الهوية كابنة هجرة هي قضايا تعنيني. كوني ابنة مجتمع مهاجر هو أمر لا ينقص من قيمة هويتي السورية، ولا ينقص من قيمة هويتي الفرنسية أيضاً، فأنا 100% سورية و100% فرنسية، ولا أعرف لماذا يفترض الجميع أنه يجب أن أحدد بالنسب المئوية مقدار انتمائي لكلا المجتمعين. إن رسم ملامح عالم آخر تتحطم بها الحدود هو فكر يتناسب مع هويتي وهواجسي وحساسيتي لمسألة الانتماء كابنة مجتمع مهاجر بكل تأكيد.
- بالانطلاق من حديثنا عن كسر الحدود والانتماء المزدوج، دعينا نتحدث عن التكوين الذي تبدو عليه فرقتك "إيقاعات المقاومة".. إن الطابع الغربي يبدو طاغياً إذا ما نظرنا للآلات الموسيقية التي تستخدمها الفرقة، حيث تعتمدين على الساكسفون والتشيلو والغيتار والدرامز والفلوت، ولا يكسر الهيمنة الغربية سوى آلة الناي التي تعزفين عليها ببعض المقاطع. فهل لحضور آلتك الشرقية المنفرد ضمن هذه التشكيلة دلالة؟ وهل هناك قصدية بتأديتك لهذا الدور في بعض المقاطع؟
* يمثل الناي العالم العربي بكل تأكيد، لكنه في خيالي يمثل أيضاً الأجداد والجذور. عندما أستعمل الناي؛ فإنني أقصد بذلك الحديث عن هذه الجذور والماضي البعيد. لكن يجب التنبيه إلى أنني لا أستعمل الناي كثيراً، وغالباً ما أستعمله كبديل لآلة الفلوت التي أعزف عليها في غالبية المقطوعات التي أؤلفها. في الألبوم الجديد، استعملت الناي في مقطوعة "سماعي الأندلس"، لأنني أردت أن أتحدث عن حضارة الأندلس، وذلك لكوني أرغب بالإشارة إلى تلك الحقبة التي يتم تجاهلها ضمن السياق العنصري الذي يتم فيه التعاطي مع العرب، والذي ينكر تماماً وجود أي دور للحضارة العربية في التطور التاريخي والمسار العلمي. هذه المقطوعة أبدأها بعزف منفرد على الناي يعيدنا إلى حقبة الأندلس، قبل أن يدخل الساكسفون مع الفلوت، وتنتهي المقطوعة بموسيقى أفريقية. وذلك لأنني أردت بهذه المقطوعة أن أشير إلى الحضارة الأندلسية كحضارة تختلط بها الكثير من الثقافات، وأردت أن أشير إلى دور القبائل الأفريقية، كالأمازيغية، وقبائل موريتانيا، بالحضارة الأندلسية أيضاً. هذا الاختلاط جعل من عصر الأندلس عصراً عظيماً بالعلوم والثقافة والشعر والفلسفة والموسيقى.