نبيل عيّوش: أردتُ تحقيق فيلم اجتماعي وسياسي لا موسيقي فقط

10 نوفمبر 2021
أنس البسبوسي ونبيل عيّوش في "كانّ" 2021: روحٌ مُفعمةٌ بالتحدّي (ستفان كاردينالي/ Getty)
+ الخط -

20 عاماً بعد "علي زاوا" (2000)، الذي يتقفّى حياة أطفال الشوارع في حيّ "سيدي مومن" وأماكن أخرى من الدار البيضاء؛ و10 أعوام بعد "يا خيل الله" (2012)، المقتبس عن رواية "نجوم سيدي مومن"، الذي يحكي عن كيف غرّر ظلاميون بعقول شبّان مُهمّشين في الحيّ الشعبي نفسه ليُفجّروا أنفسهم في مايو/ أيار 2003، مودين بحياة عشرات الأبرياء؛ يعود نبيل عيوش، في "عَلّي صوتك" (2021)، إلى "المركز الثقافي" الذي أنشأه رفقة كاتب الرواية ماحي بينبين، ليروي قصّة متخيّلة، انطلاقاً من يوميات معلّم "الراب والهيب هوب"، أنس البسبوسي، مع تلامذته، مُعطياً الكلام لشبّان مفعمين بطاقة التعبير، وحيوية الرقص، للإفصاح عن كل ما يختلج في دواخلهم من آمال وخيبات، ورغبة جامحة في تغيير واقع عيشهم وسط مجتمع يطغى فيه منطق الفضيلة المزيّفة، والتمسّك بالتقاليد الرجعية، على اعتبارات تحقيق الذات، وكلّ بواعث الفردانية.

يركّز الحكي بشكل خاص على الصعوبات التي تواجهها الشخصيات النسائية، باعتبارها الحلقة الأكثر هشاشةً وتعرّضاً لضغوط التحكّم وقيود التعبير.

أقوى لحظات الفيلم تلك التي تنفصل عن منطق السّرد لتعانق جمالية الكوميديا الموسيقية، مُعبّرةً بموشور إيحائية الرقص عن مكنونات الشخصيات (رقصة الفتاة فوق السطح)، أو بشعرية الكلمات الموزونة عمّا يختلج فيها من تناقضات (المشهد المتخيّل من وجهة نظر الشاب المتديّن، الذي ينفجر بالغناء في وجه الأصوليين). ذلك أنّ محاولة الحكي الغوص في المعيش اليومي للشباب مع عائلاتهم اتّسمت بالسطحية، إلى حدٍّ ما، لأنّها لم تلتقط التفاصيل، ولم تأخذ الوقت اللازم لتنحت فعل الزمن في الشخصيات، كما في "يا خيل الله".

رغم ذلك، لا يُمكن للمُشاهد سوى أن يعانق طرح الفيلم، وروحه المفعمة بالانطلاق والتحدّي وحبّ الحياة. لفتةٌ إنسانيةٌ لمواجهة إيديولوجيا التزمّت والانغلاق، يعبّر عنها مشهد الختام، حين تنهمر دموع أنس على خدّيه بعد أن لبس قناع القسوة والصلابة طيلة الوقت، فيعكس ـ بغصّةٍ في الحلق ـ إحدى لازمات سينما عيّوش، حيث تجد الشخصيات نفسها، غالباً، وجهاً لوجهٍ مع واقعٍ سعت بكلّ قواها إلى التغاضي عنه: "لا وسيلة للهروب من حقيقة واقعكم بعد اليوم. لا مفرّ أمامكم سوى أن تواجهوها".

بمناسبة العرض ما قبل الأول لـ"عَلّي صوتك"، المُقام مؤخّراً في الدار البيضاء، تمهيداً لعرضه في الصالات السينمائية المغربية، أجرت "العربي الجديد" هذا الحوار مع نبيل عيّوش.

 

(*) تعود إلى حيّ "سيدي مومن" كلّ مرّة، إلى درجة أنّك تكاد تتّخذ منه ما يُسمّيه ميشال فوكو "هيتيروتوبيا". هل ذهبت إليه، هذه المرة، تلبيةً لنهج إجراء تقييم فنّي لالتزامك الإنساني والثقافي هناك؛ أم هناك سببٌ آخر أطلق الرغبة في إنجاز "عَلّي صوتك"؟

واضحٌ أنّ هناك لقاءً مع فضاء لم يتمّ إنشاؤه على الإطلاق لاستضافة تصوير فيلمٍ في الأصل، أي "المركز الثقافي"، ثم مع شباب في فصل "الهيب هوب"، ومعلّمٍ أبهرني. ذكّرني كلّ ذلك، قبل أي شيء، بطفولتي، ما أثار أوتاراً حسّاسة قوية جداً في داخلي، جعلتني أرغب في العودة، لأضع الكاميرا في "سيدي مومن"، وهذا لم أخطّط له في البداية.

أرى ذلك كخيطٍ ينسحب ببطء من كتلة خيوط.

 

(*) هناك أيضاً عودة إلى أحد اهتماماتك الرئيسية: التعامل مع الشباب. هناك ميل حقيقي إلى هذا الجانب، لأن 5 من أفلامك الروائية تضمّ شباباً كشخصيات رئيسية. كيف تفسّر هذا الميل؟

بقوّة اللقاء معهم، وموهبتهم الطافحة بشكل أساسي. كنتُ أعلم أنّ هناك موهبة لدى هؤلاء الشباب، لكنّي لم أتوقّعها بهذا القدر. في مرحلة ما، تولّدت رغبة لديّ في محاولة فهم من أين أتت هذه الموهبة، ومن أين جاءت القوّة التي تُعبّر بها الكلمات والأجساد. كلّ شيء انطلق من نقاش استمر ساعات عدّة، بعد ظهر يوم سبتٍ في نوفمر/ تشرين الثاني 2017، والثقة التي وضعوها فيّ أخيراً، كي يتقاسموا واقعهم معي. أنْ يقولوا لي: "من هنا أتينا. هذا هو المكان الذي نشأنا فيه، وهذا هو السبب في أنْ نصنع موسيقى "الهيب هوب"، ولأجل هذه الأسباب نكتب ونغنّي بهذا الشكل".

عندها، أيقنتُ أنّ هناك، نوعاً ما، لقاءً بين طاقة وحيوية معيّنة، وشيئاً يفتح على أفق أفضل. في الوقت نفسه، هناك مواضيع مفضّلة ومهمّة بالنسبة إليّ.

 

(*) يبدأ "عَلّي صوتك" بنوع من التبئير المرآوي لسيرورة التحضير لفيلمٍ، حيث يقوم أنس بمعاينة الفضاء باحثاً عن "المركز الثقافي" في "سيدي مومن"، ثم يزخرف جدران الفصل في محاكاة لإنجاز الديكور، وينجز نوعاً من الكاستينغ في لحظة معينة، عندما يجسّ قليلاً الحساسيات الموسيقية لدى تلامذته. هل قصدتَ أن تبدأ الفيلم بهذا الشكل؟

لا، إطلاقاً. مُثير للاهتمام أنْ أسمع منك هذا الآن، لأنّك مُحقّ. لكنّي لم أقصد البدء بهذا التبئير صراحةً. ما كان مقصوداً، من جهة أخرى، إسداء تحيّةٍ إلى أفلام الغرب الأميركي، وجون فورد وكلينت إيستوود. تلك الأفلام عن السهول العظمى، حيث يصل دائماً بطلٌ وحيدٌ على حصانه ـ هنا نتحدّث عن السيارة السوداء لأنس ـ إلى أرضٍ مجهولة ومُعادية غالباً. بطلٌ غامض، نعرف القليل جداً عن ماضيه في نهاية المطاف. صعب المراس، ويمكن أنْ يصبح وقحاً، أحياناً. لكنْ، إذا منحناه الوقت اللازم، نتمكّن من اكتشاف قلبٍ كبيرٍ، وقدرةٍ على إقامة روابط إنسانية عميقة مع السكّان الذين يعيشون في تلك الأرض، غير المعروفة له في البداية.

 

 

 

(*) أرى أيضاً أنس بمثابة تجسيد لمثالية "الراب" في أعين الشباب، إلى درجة المجازفة بجعله نفسه مثالياً نوعاً ما. ألم تتوجّس من هذا الخطر قليلاً؟

كلا. لأنّ أنس في مهمّة بالنسبة إليّ. إنّه بمثابة مُبشّر، يأتي ليحوّل الشبّان إلى نهجه في الحياة. يمنحهم أدوات التعبير، وصوتاً يحمل كلماتهم، لأنّه يشعر أنّ لديه مسؤولية تجاههم. إنّه أيضاً شخص لديه رؤية لأصول موسيقى "الراب": أنتم لستم هنا للاستمتاع أو التصفيق أو سرد القصص التافهة التي تجري في حيّكم. لست مُهتمّاً بهذا. إذا كنتم في صفّي، فإنّ لديكم أشياء لتقولوها، ويُمكن لهذه الأشياء أنْ تُغيّر العالم، ويُمكنها أنْ تغيّركم أنتم كذلك. عندما تكون لديك هذه الرؤية، فأنت بالضرورة شخص غير مهادن. أردتُ، عكس كلّ اعتقاد، أنْ أُظهر شخصية أنس على هذا النحو.

 

(*) تبدو مَشاهد المبارزات اللفظية كأنّها مرتجلة، لكنّي أعلم أنها ليست كذلك. ما هو نصيب المكتوب والمرتجل في الفيلم، بشكل عام؟

كلّ شيء حقيقي، وكلّ شيء غير حقيقي. كلّ شيء مُتخيّلٍ، وكلّ شيء محض واقع. كلّ شيء يبدأ من الواقع، في الفيلم، وبعد ذلك في اقتراح السينما هذا. أمزج الفيلم الاجتماعي بالحميمي والموسيقي. مُهمّ أنّ نظلّ، من وجهة نظر أسلوبية، في اقتراح مُنسجم ومُوحّد الرؤية، وأنْ نفقد في الآن نفسه المُشاهد، حتى لا يتأتّى له ـ في أي لحظة ـ أنْ يُفرّق بين ما هو مكتوب وما هو غير مكتوب.

من هنا جاء سؤالك. بالنسبة إليّ، طمس الحدود بين الأفلام الوثائقية والخيالية أمر بالغ الأهمية، بحيث نشعر في كلّ لحظة أنّنا مع هؤلاء الشّباب في المركز، وأنّ ما يقولونه، والمَشاهد التي يؤدّونها، جزءٌ وثيق من حياتهم اليومية. عندما يناقشون، الأمر سيّان: فليكن كلامهم ما نسمع. وعندما يُغنّون، فإنّ كلماتهم تُشكّل الأغنية، إلخ. العمل كلّه، الذي قمت به معهم في هذا الفيلم، والذي كان يُمثّل كلّ تعقيد اشتغالنا، ألا نرى في أي وقت حبال الخيال.

 

(*) هناك أيضاً تلك المَشاهد المثيرة للإعجاب، حين تنفصل عن السرد، وتقول أشياء مجرّدة، مع فتاة تؤدّي وصلة رقص معاصر على السطح، ومَشاهد معارك الرقص التي تُذكّرنا بأجواء الكوميديا الموسيقية. هل كانت هذه المَشاهد مكتوبة في الأصل؟

تدرّبنا عليها بشكل مُكثّف، واشتغلنا على كلّ تفاصيلها مع مُصمّمي رقص، لا سيما المصمّم خالد بن غريب. أمضينا شهوراً طويلة من التّمرين على تصميم الرقصات، لتحقيق هذه النتيجة، خاصة أنّي أردتُ شيئاً هشّاً أحياناً، مثل رقصة الفتاة على السطح، ولمسةً أخرى أكثر انفتاحاً وحركيةً أمام "المركز الثقافي"، تُحيل إلى "ويست سايد ستوري" (West Side Story أحد أبرز وأهم الأفلام الموسيقية، أنجزه الكوريغراف جيروم روبنز والمخرج روبرت وايز عام 1961 ـ المحرّر). هناك مستويات عدّة للوحات الكوريغرافيا في الفيلم.

 

(*) في هذه المَشاهد، تحديداً تلك الخاصة بمبارزة الرقص أمام الأصوليين، نكاد نتحسّر أنّك لم تذهب بهذه الروح إلى أبعد حدٍّ، لتقدم كوميديا موسيقية صريحة. ألم تخطر هذه الفكرة في بالك؟

لا، رغم أنّها كانت جزءاً من دوافع رغبتي في السينما، ومُكوّناً أساسياً من رؤيتي لمشروع "عَلّي صوتك"، إلاّ أنّها لم تكن اللبنة الوحيدة التي جعلتني أرغب في بناء هذا الصرح. أردتُ أنْ أنصتَ إلى كلمات الشباب، وأنْ نرى مَشاهد الصّدام بينهم. لكن أيضاً أنْ نراهم يتجادلون فيما بينهم، كما في "بين الجدران" (2008 ـ المحرّر)، فيلم لوران كانتي الذي أحبّه كثيراً. أردتُ أنْ يحدث النقاش. أنْ أحقّق فيلماً اجتماعياً وسياسياً، وليس موسيقياً فقط.

المساهمون