عَمل نادر ساعي بور مع جعفر بناهي، مُنتجاً لفيلمين له: "لا دببة" (2022) و"ثلاثة وجوه"(2018)، الذي كتب حواره أيضاً. بانت براعته في كتابة الحوار مرة أخرى في فيلمه الجديد "لا نهاية" (2022)، الذي يُبيّن كابوسَ رجل بسيط، ينغمس تدريجياً في العمل المخابراتي، رغماً عنه.
في سردٍ متماسك الصنعة، يُميّزه حوار ذكيّ وممتع، وأداء تمثيلي دقيق، وإيقاع مُنتَظم للمَشاهد، يُظهر الفيلم انعكاسات القمع والاستبداد في دواخل الأفراد ونفسيّاتهم وسلوكهم الظاهري. "لا نهاية"، الذي ساهم بناهي في توليفه، يروي قصة أياز، رجل أمين ومجتهد، حلمُه الوحيد امتلاك منزل خاص به. لتحقيق هذا، يتورّط في خدعة صغيرة لأهله، من دون التفكير في عواقبها، لكنّها تُثير انتباه قوات الأمن. باستخدامه تقنيات بلطجة، لا هوادة فيها، يُجبره نظام مخابراتي استبدادي على التعاون معه، فيعاني اضطرابات ذهنية ونفسية، ستكون نتائجها وخيمة.
عرض الفيلم في الدورة الـ58 (30 يونيو/حزيران ـ 8 يوليو/تموز 2023) لـ"مهرجان كارلوفي فاري السينمائي"، في برنامج "ولادة جديدة، السينما الإيرانية اليوم وهنا"، التي عُرضت فيها 9 أفلام إيرانية مستقلة، مُنتجة في الأعوام الـ4 الماضية.
تواجد نادر ساعي بور (1974) في الأيام الأخيرة للمهرجان، فالتقته "العربي الجديد".
عرض "لا نهاية" في "مهرجان سينما/سينمات إيران" الشهر الماضي في باريس، ولم تحضر معه. كان مُقرّراً إجراء حوار مباشر عبر الإنترنت بينك وبين الجمهور بعد العرض، لكنك اعتذرت. هل حصل هذا بسبب خشيتك من السلطات لتنظيم المهرجان بشعار "امرأة، سينما، حرية"، ما يُسبّب لك مشاكل في إيران؟
كلُّ حدث ثقافي يتعلق بإيران تحيط به صبغة سياسية. حينها، ولا أزال، كنتُ أحضّر فيلماً في إيران، ولا نية لديّ في توجيه الأنظار نحوي، وإعطائهم أيّ حجّة لإزعاجي، ولعرقلة إنهاء الفيلم.
أعتقد أنكَ لا ترغب، أيضاً، في إعطاء فكرة عنه.
(مبتسماً) هذا سرّ، لا أستطيع البوح به حالياً. بعد 3 أشهر، ستشاهدونه. سأكون أكثر راحة بعد إنهائه، وإرسال النسخة إلى عمليات ما بعد الإنتاج.
بيّنت بذكاء التطوّر التدريجي للشخصية في "بلا نهاية"، بانغماسها في العمل المخابراتي. الحوار موظّفٌ ببراعة، ليُبدي أسلوب تلاعب رجل الأمن بالرجل البسيط. كيف عملتَ عليه؟ أهذه تجربة شخصية؟
الفيلم مُستقى من الواقع. أحداثٌ كثيرة مشابهة حصلت في الثمانينيات في إيران. حينها، غادر البعض البلد بعد الثورة، ثم قرّر مُغادرون، بعد أعوامٍ عدّة في الغربة، العودة والاستقرار في إيران مجدّداً، كما فعل شقيق زوجة أياز في الفيلم.
لكلّ واحد من هؤلاء قصة مثيرة ومهمة، تصلح لاستخدامها سينمائيّاً. تأسّس الفيلم على إحداها. أمضى هؤلاء أعواماً يرسلون المال لأسرهم، التي تستفيد منه وتستعين به لتلبية حاجاتها. أحياناً، كانت تستغلّ المال لمصالحها الخاصة، ما سبّب مشاكل عائلية كثيرة.
هذه القضية لفتت نظري، وأثارت اهتمامي. فهؤلاء، الذين أجهدوا أنفسهم وواجهتهم ظروف قاسية في الخارج، أضاعوا شبابهم بسبب نشاطهم السياسي، وأضاعوا مستقبلهم، بسبب عدم أمانة العائلة.
تُركّز، في حديثك، على العائلة، وعلى ما سبّبه كذب وخداع أحد أفرادها، أكثر من قضية استدراج مواطن بسيط إلى العمل المخابراتي، رغماً عنه. كأنّ الفيلم يهتمّ أكثر بهذا المنحى، وهذا لم يكن محطّ اهتمام المشاهدين، أولاً.
نعم. جذبتني فكرة عواقب كذبة صغيرة، بل تافهة أحياناً، لكنّها تُكلّف صانعها ثمناً غالياً، دفعه أياز. شخصية مثله تجذب انتباه نظام يستفيد، كلّياً، من كلّ عيب وضعف وكذب، يلجأ إليه المواطن. هذا يُستخدم لاحقاً، بعد ضعف الإنسان، كوسيلة ضغط عليه.
كيف توصّلتَ، بهذا النحو الدقيق، إلى معرفة الكيفية التي يلجأ إليها النظام الأمني؟
منذ صغرنا، نواجه هذا النظام. في عائلتي أشخاص عديدون وقعوا ضحيته. سُجن أخي عاماً كاملاً، في بداية الثورة، لأنّه حمل، ذات يوم، رواية "الأم" لمكسيم غوركي.
عملتَ مع جعفر بناهي في أفلامٍ عدّة له. كما أنّه وَلّف فيلمك الثاني هذا. كيف تعرّفت إليه؟
نحن معاً من مدينة تبريز (محافظة أذربيجان الشرقية حيث تنتشر اللغة التركية). كان بناهي ممنوعاً من السفر خارج البلد، لكنّه كان يسافر فيه. التقيته للمرّة الأولى في تبريز، في مقهى، يقصده سينمائيون وفنانون. بناهي يزوره حين يأتي إلى تبريز. كنت آنذاك أخرج مسلسلاً تلفزيونياً. توطّدت الصداقة بيننا، وكتبنا معاً "ثلاثة وجوه". ما إنْ بدأت العمل معه، حتى مُنعت من العمل في التلفزيون. لكنّي كنت مسروراً.
بالنسبة إليّ، شكّل بناهي دائماً مرجعاً سينمائياً. كما أثّر على طريقة أدائي مهنتي. تغيّرت تماماً نظرتي إلى السينما بعد لقائه. كنت أعمل في التلفزيون، لكنّي تمنّيت دائماً صنع أفلام. أعطاني الشجاعة للبدء بفيلمي الخاص. أصبحت صداقتنا أعمق، وبات أستاذي لاحقاً.
ألم تخشَ على مهنتك من التعاون مع مخرج مغضوب عليه من النظام في إيران؟ هل يمكن مثلا أنْ تعمل خارج البلد؟
في الواقع، لا يهمّني إنْ حدثت لي مشاكل بسبب تعاملي معه. أفضّل تعاوننا والعمل معاً. في ما يتعلق بالعمل خارج إيران، ربما يُجبرني الوضع الحالي على فعل ذلك يوماً، لكنّي لا أفكر في ترك البلد.
اخترت التركية لغة الحوار. ألا يسبّب هذا مشاكل في إيران؟
لا. نستطيع استخدام اللغة التي نريد في السينما.
وما نظرتك حول وضع السينما في إيران اليوم؟
يُمكن القول إنّها منقسمة إلى قسمين: سينما رسمية، تُعرض في إيران؛ وأخرى مستقلّة، لا تجد فرصاً كثيرة للعرض. الثانية تمثّل صوت الإيرانيين في الداخل، لكنّها تعرض أكثر خارج إيران. باتت السينما المستقلّة، في السنتين الأخيرتين، أقوى وأكثر صلابة، فهناك كثيرون، لا سيما من الشباب، يرغبون في صنع الأفلام بوسائلهم. لا يُمكن إيقاف هؤلاء لكثرة عددهم، فكم شخص يُمكن توقيفه ومنعه من العمل؟!
ما تعليقك على ما يحدث في إيران اليوم؟ ما تأثير الوضع السياسي على السينما الإيرانية؟
هناك ما يُمكن أنْ نطلق عليه تعبير "طلاق" بين الحكومة والشعب. أشبّه الوضع بحالة زوجة حصلت على الطلاق، لكنّها لم تغادر البيت. كلّ الاحتمالات واردة في المستقبل. لكنّ أحداً لا يعرف من سيغادر قبلاً. لا نعرف فعلاً. متفائل، لكنْ ليس من دون شعور بخطر يهدّد الإيرانيين. مجرّد التنفّس في إيران فعلٌ سياسي. لو كان كيارستمي حيّاً اليوم، لكانت أفلامه سياسية. ينظر الناس إلى كلّ شيء باعتباره شأناً سياسياً.
لكنّ عباس كيارستمي لم يكن يميل إلى الحديث عن السياسة في أفلامه. هو ليس مثل تلميذه جعفر بناهي، بل إنّه انتقده ذات مرّة في حوار.
عباس كان يتحدّث بعض الشيء في السياسة في إيران، لكنّه لا يتحدّث فيها إطلاقاً خارجها. هذا أسلوبه الخاص، ولكلّ منّا طريقته في التفكير.
هل للسياسة تأثير على انتشار السينما الإيرانية؟
لا أعلم. لا تجربة لي بهذا الخصوص، وإنْ كان للسياسة فضلٌ في انتشار السينما الإيرانية. لا أدري أسلوب تفكير الناس، هؤلاء الذين يحضرون المهرجانات مثلاً. لكنْ، يُمكن القول إنّ هذه السينما مرآة للواقع في إيران.