"نابولي في باريس": المسيح قبل صلبه

22 اغسطس 2023
في إحدى قاعات متحف كابوديمونتي (أنطونيو بالاسكو/ Getty)
+ الخط -

لوحة جلد المسيح للفنان الإيطالي كارافاجيو (1571 – 1610) تعد واحدة من روائع الأعمال الدينية التي أنتجت خلال القرن السابع عشر. ويرى العديد من النقاد هذه اللوحة تمثيلاً رائعاً ونموذجياً لأسلوب فن الباروك بأجوائه الدرامية.

تدهشنا بلا شك مثل هذه الأعمال وغيرها من اللوحات التي تعود إلى عصر النهضة، لما تتمتع به من إتقان وجمال يأخذ الألباب. رسم كارافاجيو لوحتين تحت الموضوع نفسه، إحداهما في نابولي في إيطاليا والأخرى في باريس، غير أن اللوحة الأولى تبدو أكثر تمثيلاً للسمات الدرامية لعصر الباروك. تُصور اللوحة المؤرخة بعام 1607 جسد المسيح أثناء تقييده إلى العمود لجلده قبل الصلب. برع كارافاجيو هنا في توظيف الإضاءة والظلال لتوجيه الانتباه إلى الأجزاء المحورية في المشهد، مع الاحتفاظ بالحد الأدنى للعناصر الغارقة في ظلام الخلفية.

في غمرة انشغالنا بروعة هذه الأعمال قد لا نلتفت أحياناً إلى المكان الذي يستقر فيه هذا العمل أو ذاك. ماذا لو قلنا إن اللوحة المشار إليها هنا لكارافاجيو هي واحدة من مجموعة متحف كابوديمونتي في مقاطعة نابولي الإيطالية؟ لا يبدو اسم المتحف شائعاً على أي حال، فهو ليس في شهرة متحف اللوفر أو المتحف البريطاني مثلاً.

ولكن، على الرغم من هذه الشهرة المتواضعة لهذا المتحف إلا أن مجموعته الفنية تعد واحدة من أكثر مجموعات المتاحف في أوروبا تنوعاً وشمولاً، إذ تُمَثّل فيه أغلب الأسماء الشهيرة لفناني عصر النهضة. يحتوي المتحف أيضاً على مجموعة كبيرة من الرسومات، يتخطى عددها الثلاثين ألفاً، وهي المجموعة الأكبر بعد متحف أوفيزي في فلورانسا. هذا إلى جانب محتويات المتحف النادرة من النحت والخزف والمشغولات الزخرفية.

أنشئ متحف كابوديمونتي في أوائل القرن الثامن عشر على إحدى التلال المشرفة على المدينة ليكون مقراً صيفياً لحكام نابولي، لكنه تحول إلى متحف بعد سنوات قليلة من بنائه. تعرّض المتحف في بداية القرن التاسع عشر للسلب والتخريب على يد الجنود الفرنسيين حين احتل الجيش الفرنسي جنوب إيطاليا. ويقال إن الجنود الفرنسيين سلبوا وخربوا أثناء هذا الغزو نحو ألفي عمل فني. بعيداً عن هذه الوقائع التاريخية المتوترة بين نابولي وباريس، فقد اتسمت العلاقة بينهما في معظم الأوقات بالتبادل الفني والثقافي، بل والروابط الأسرية بين العائلات الحاكمة.

تجسيداً لهذه العلاقة التاريخية العميقة بين نابولي وباريس، يستضيف متحف اللوفر حالياً معرضاً تحت عنوان "نابولي في باريس". افتتح المعرض في يونيو/ حزيران الماضي بحضور الرئيسين الفرنسي والإيطالي ويستمر حتى الثامن من يناير/ كانون الثاني المقبل.

يضم المعرض مجموعة منتقاة من روائع الأعمال الشهيرة لمتحف كابوديمونتي إلى جانب أعمال إيطالية أخرى من مقتنيات اللوفر. تغطي الأعمال التي يضمها المعرض الفترة من القرن الخامس عشر إلى القرن السابع عشر، وهي المرة الأولى التي تجتمع فيها كل هذه الأسماء الكبيرة من فناني عصر النهضة في مساحة عرض واحدة. ما يميز هذا المعرض أنه يسد الفجوة في مقتنيات متحف اللوفر، والتي تفتقر إلى تمثيل جيد لفناني مدرسة نابولي ذات الطبيعة الدرامية والتعبيرية، كما أنها تعد فرصة أيضاً للتعريف بمتحف كابوديمونتي وما يحتويه من روائع فنية.

رُتب المعرض ترتيباً زمنياً ليسهل للجمهور المرور عبر العصور المختلفة التي حددت التطور الثقافي لمدرسة نابولي، ما يعطي فهماً أعمق لملامحها المميزة. يمكن للزائر التعرف إلى ملامح مدرسة نابولي عبر تتبع سماتها المتمثلة في الأعمال المعروضة، من البذخ الباروكي إلى المناظر الطبيعية والرومانسية، ومن اللوحات الدينية إلى مشاهد الحياة اليومية. تنتمي اللوحات المعروضة لأسماء بارزة في تاريخ الفن الإيطالي مثل تيتيان وكارافاجيو وأنّيبال وجويدو ريني. بين الأعمال أيضاً لوحة تجلي المسيح لجيوفاني بيلليني، ورسومات لرفاييل ومايكل أنجلو.

من بين أبرز فناني مدرسة الباروك الممثلين في هذا المعرض إلى جانب كارافاجيو يأتي لوكا جيوردانو، وجوزيف دي ريبيرا، بأعمالهما التي تتميز بالقوة والرصانة وتقنيات الإضاءة المسرحية، ما يشي بالروح الدرامية التي اتسمت بها تلك الفترة، ثمة أعمال أخرى شهيرة، مثل لوحة استشهاد القديس لخوسيه ريبيرا، واغتصاب أوروبا للوكا جيوردانو. يعد هذان العملان، إلى جانب لوحة جلد المسيح لكارافاجيو، أمثلة رئيسية تجسد الميل الباروكي للكثافة والعظمة. تُمثَل في هذا المعرض أيضاً فترة الروكوكو بنهجها الأنيق والزخرفي الذي يعكس بذخ العصر.

كما تحتل الموضوعات الدينية مساحة كبيرة داخل المعرض ممثلة في لوحات القديسين والشهداء والمشاهد التوراتية. بين هذه الأعمال الدينية تبرز لوحة "تجلي المسيح لجيوفاني بيلّيني. إلى جانب اللوحات يضم المعرض مجموعة متنوعة من الوسائط الفنية كالمنحوتات والزخارف والتحف التاريخية، ما يوفر منظوراً شاملاً لإرث نابولي الغني.

المساهمون