في الربع الأخير من عام 2021، تُقدِّم السينما العربية مُراهِقَتين اثنتين في فيلمين، يُثير أحدهما سجالاً حادّاً، لحساسيّة النواة الأساسية لحبكته الدرامية؛ ويستعيد الآخر لحظةً تاريخية، تُشكِّل مساراً من وقائع، يؤدّي معظمها إلى حالة بلدٍ وناسه، يحضر بعض تلك الحالة في الفيلم الآخر. مُراهقتان اثنتان، يتردّد أنّ الفيلمين أول تمثيل سينمائي لهما: تارا عبّود (أردنية ذات أصل فلسطيني)، في "أميرة" للمصري محمد دياب، وكرم طاهر (أردنية)، في "فرحة" للأردنية دارين ج. سلّام. مُراهقتان اثنتان، تمنحان الشخصيتين كلّ ما تحتاج إليهما من أدواتٍ، لتقديمٍ أصدقٍ وأعمقٍ لتخبّطاتٍ ورغباتٍ وهواجس تعيشانها يومياً، ولتحدّيات ومواجهات، تُدركها المرُاهقتان فتنخرطان فيها، أو تُفرَض عليهما فتُجبران على مقاومتها بما تملكان من انفعالٍ ووعيّ، يتوافقان ومرحلة المراهَقَة.
العفوية حاضرةٌ، من دون تفلّت أو ادّعاء. الحماسة أيضاً. تارا عبّود وكرم طاهر تُطوّعان شخصيتي أميرة وفرحة في عمق النصّ والأداء، ببساطة وحيوية وإدراك واضح لخصوصية كلّ شخصية، وكلّ بيئة تُقيم فيها كلّ شخصية. تبدوان أمهر من حِرفية أخريات وآخرين، وبعض هؤلاء مهنيّ يُتقن التلاعب بالشخصية وكيانها وتركيبتها، جسداً ونفسية وروحاً واجتماعاً، فإذا بالمُراهِقَتين تتساويان، بما يُشبه الحِرفية المعطوفة على رغبةٍ في إبداءِ أفضل أداءٍ ممكن، مع براعة التلاعب التمثيلي لمحترفين، أبرزهم أشرف برهوم (فرحة)، وعلي سليمان (أحد الأدوار الرئيسية في "أميرة"، إلى ظهورٍ عابر في "فرحة"). عفويتهما معجونة بمهارةٍ، لا بُدّ من السؤال عن منبعها، وإنْ يكن للمخرجَين فعلٌ أساسيّ في بلورة تلك "المهارة العفوية".
مُشتركٌ آخر يجمع تارا عبّود بكرم طاهر: ملامح الوجه، وحركة الجسد، وانفعالات تراوح بين هناءٍ مؤقّت وغضبٍ عاصفٍ وقلقٍ كأنّه يُقارع وجوداً وقدراً. اللحظة الراهنة تُسبِّب تبدّلات انفعالية كهذه: أميرة تكتشف أنّ نوّار (سليمان) ليس والدها الأسير في سجنٍ إسرائيلي (هذه مسألة حسّاسة تحتاج إلى نقاشٍ مستقلّ)، فتنقلب فجأة على مُراهَقَتِها، بحثاً عن عدالة وانتقام من محتلٍّ إسرائيلي؛ وفرحة تواجِه ـ بعد وقتٍ قليلٍ من قبول والدها (برهوم) انتقالها إلى المدينة لإكمال دراستها، كما تحلم وتُصرّ ـ انقلاباً مُدوّياً في يومياتها، يصنعه احتلالٌ صهيوني لبلدتها ـ بلدها. لحظة راهنة تجعل كلّ مُراهِقَةٍ منهما أكبر سنّاً، وأقدر على تحدّي فعلٍ قاسٍ وعنيفٍ وغير متوقّع، وأجمل في مقارعة تلك اللحظة، بحثاً عن خلاصٍ وطمأنينة.
بهذا، تُقدّم تارا عبّود وكرم طاهر شيئاً من حيويةٍ مطلوبةٍ في صُنع شخصيتين، تمرّان في إحدى أصعب المراحل العُمرية للفرد، وأكثرها حساسيّة وتخبّطاً وتساؤلاتٍ. حيوية ترتكز على عفويةٍ، يضبطها المخرجان محمد دياب ودارين ج سلّام بإيقاعٍ ـ سرديّ ونفسيّ وجماليّ ـ يُفترض به أنْ يُرافق مسار الحكايتين، ويُعاين مصائر الشخصيات كلّها، ويلتقط أحوال البيئتين أيضاً. عفويةٌ يشعّ بهاؤها في عيون المُراهِقتين أساساً، كما في الوجهين والنبرتين والصوتين والإلقائين، إضافةً إلى ما يُساهم الجسد وحركاته وأشيائه (المشي، الزيّ، انعكاس الصدمة فيه، إلخ)، في تفعيل تلك العفوية، وتحصينها من تصنّع ومُزايدة وتشاوف.
الأجمل، أنّ لحظة الانقلاب من هناء إلى غضب تُصنع، انفعالياً وجسدياً وحركةً، بعفويةٍ أيضاً، وهذا غير سهلٍ. فالعفوية غير مُصنَّعة، عادة. لكنّ التمثيل وإدارة الممثلين/ الممثلات، بعد كتابة الشخصيات وبنائها النفسي والجسدي والروحي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، كفيلةٌ كلّها في الاستفادة القصوى من عفويةٍ، تتمكّن منها عبّود وطاهر، فتُجيّرانها لأميرة وفرحة بما يُناسِب تبدّلات السرد الحكائيّ، وانشغالات الشخصيات كلّها بالتبدّلات، وبما يفضي إليها وينتج منها.
في كلّ لحظةٍ، ينعدم كلّ خطّ فاصل بين قولٍ وتعبيرٍ، تُتقن عبّود وطاهر إخراجهما من كلامٍ وحركةٍ عاديين، لتجعلهما مرايا تكشف ما يعتمل في ذاتٍ وروحٍ، وتعرّي انفعالاتٍ ورغبات.
تواجِه أميرة أزمة وجود، في البيولوجيا والهوية والنفس والاجتماع، بعد اكتشافها أنّ والدها الأسير عقيم، بعد سنين من تهريب نطفٍ له، وأنّ النُطف المهرّبة عائدةٌ إلى جندي إسرائيلي (هذا يُثير حساسيّة فلسطينية كبيرة، لأنّ تهريب "النطف المحرّرة" فعلٌ مُقاوم ضد المحتل. هذا يحتاج إلى نقاشٍ آخر). التبدّل، جسداً وانفعالاتٍ، يتمثّل بإمكانيات تارا عبّود في تحويل مُراهَقَتِها إلى كيانٍ بشريّ يستقلّ عن محيطين بها، دافعاً إياها إلى انتقاء خياراتٍ، يحتاج بالغون كثيرون إلى وقتٍ وجهدٍ ووعيّ لتقرير انتقائها أو لا. هناك جمالٌ في أداء عبّود تلك اللحظات المتأتية من انكشاف سرٍّ يجهله الجميع. أداء يرتقي إلى حِرفيةِ مُراهِقةٍ، تصطدم بأخطر واقعٍ وأقساه، فتندفع إلى ثأرٍ تريده إثباتاً عميقاً لفلسطينيتها.
يحصل هذا مع فرحة، رغم اختلاف ما يؤدّي إلى التبدّل. سعيها إلى إقناع والدها المختار بإكمال دراستها في المدينة لن يحول دون متعٍ تعيشها في قريتها، ودون مصاعب تجعلها متمرّدة على قيودٍ وثقافةٍ سائدة، فشخصيتها البشرية تستمدّ قوّتها من وقائع العيش في بيئةٍ ذكوريةٍ كهذه، مع أنّ عمّها (سليمان) مُدافعٌ شرسٌ عنّها وعن أحلامها، ووالدها غير صارمٍ كلّياً معها. الهجوم الصهيوني، صانع نكبة 1948، يصنع التبدّل، فيُخفيها والدها في قبو المنزل، واعداً إياها بالعودة إليها لاحقاً. القبو ـ بإضاءته الباهتة، ومساحته الضيّقة، وأشيائه القليلة ـ يُصبح خشبة مسرحٍ وخشبة خلاصٍ لاحقٍ لفرحة، فإذا بكرم طاهر تُحوّل المكان إلى فضاءٍ واسع، تكشف فيه ما تمتلكه من جمال أداءٍ، يعكس كلّ ما يُمكن لمُراهِقةٍ وحيدةٍ أنْ تعيشه، وأمام عينيها (ثقوب قليلة في باب القبو وبعض جدرانه) يُقتَل أناسٌ، بعد وقتٍ من معاينتها السريعة لامرأةٍ حاملٍ، ولعائلتها الهاربة من بطش الصهاينة.
القبو دربٌ لخلاصٍ يأتي إلى فرحة بعد وقتٍ، فتخرج إلى عالمٍ آخر تماماً. حينها، تُبرز كرم طاهر شيئاً أخيراً من روعةِ ملامحٍ تشي بصدمةٍ ممزوجةٍ بقهر وغضب وخوف. القبو الذي تواجهه أميرة يتمثّل بوحشية الإسرائيليّ (وإنْ يغيب كلّ دليل حسّي على أنّ الإسرائيلي قادرٌ، فعلياً، على التلاعب بـ"النطف المُحرّرة"، فالإسرائيلي عاجزٌ عن كشف هذه المسألة ومحاربتها)، وبعنف اللحظة، وبالانهيار العظيم في حياتها وبيئتها الصغيرة. كرم طاهر تمتلك سحراً في انعكاس القهر والغضب والخوف في ملامحها. سحرٌ يُبرز نواة أصيلة لأداء يحترف نقل الجسد والروح والانفعال من حالة إلى نقيضها، بعفوية وبراءة يُفترض بمراهقات ومراهقين كثيرين عيشهما.
هذه بداية سينمائية جميلة لمُراهِقَتين اثنتين. متعة مُشاهدة أدائهما باهرةٌ. لكنّ الأهمّ سيظهر لاحقاً: أتكون هذه مجرّد لحظة عابرة، أم تأسيساً فعليّاً لمسارٍ جدّي، يُحافظ على النواة الأولى لأداء جميل؟