عادت لوحة موناليزا لتتصدر الأخبار، بعدما أفرغت ناشطتان فرنسيتان علب حساء على اللوحة المحمية بزجاج مقاوم للرصاص وهما تهتفان: "من أجل غذاء صحي ومستدام". وبالطبع، صُعق الحاضرون، وسارع الحرس إلى احتواء المحتجتين، وإخلاء القاعة الشهيرة في متحف اللوفر الباريسي.
في ظل ما يشهده العالم حالياً، تبدو هذه المحاولات مبتذلة، أو من وحي خيال بعيد أكثر البعد عن الواقع، خصوصاً أمام إبادة جماعية يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي في غزة، تُحقّق في شأنها محكمة العدل الدوليّة. رمي الحساء على اللوحات، وتخريب الأعمال الفنية الذي تكرر في السنوات الماضية، ازداد ابتذالاً بعد شبح المجاعة الذي يطل على فلسطينيي قطاع غزّة.
الاحتجاج بهذا الشكل ليس أكثر من غضب أبيض إن صح التعبير، لا مكان له في الواقع. ماذا يعني "غذاء صحيّ" وفرنسا قررت تعليق تمويلها لمنظمة أونروا المسؤولة عن مليوني فلسطيني في انتظار التحقيق في الاتهامات التي وجهتها إسرائيل لـ12 موظفاً. هذا النوع من الاحتجاجات لم يشكّل دُرجةً (ترند) على وسائل التواصل الاجتماعي، أي لا أثر كافياً له.
الأكثر واقعية ومنطقية في أشكال الاحتجاج هو ما قام به الناشطون في أنحاء العالم من أنصار الحق الفلسطيني بتعطيل شحنات الأسلحة المتجهة إلى جيش الاحتلال الإسرائيلي، وقطع الطرق أمام الشاحنات في كندا، والسفن في إيطاليا، وغيرها من مدن العالم التي رفض فيها الناس أنفسهم أن يقتل آخرون باسمهم، وبأموال ضرائبهم.
فاعلية أي احتجاج لا تكمن فقط في قدرته على جذب الانتباه، بل على ترك أثر في الواقع، أو على الأقل في المؤسسة التي يحدث الاحتجاج ضدها. محاولة تلطيخ لوحة موناليزا لا أهمية له سوى إضرار عمّال النظافة، الذين سيُجبرون على مسح الزجاج الموضوع لحماية اللوحة من السرقة، أو الإقدام على تلطيخها. وهنا تكمن المفارقة: نحن أمام ترف من نوع ما، بأقل ضرر ممكن أن يقع على المؤسسة، والحساسية الفرنسية والذائقة الفنيّة.
لا نحول هنا الاستهانة بقضية "الغذاء الصحيّ"، لكنها حالياً ليست في قمة هرم الاهتمام العالميّ، خصوصاً أن "العالم" بأكمله يركز على قضية واحدة، ويسعى إلى إيقاف الإبادة الجماعية في قطاع غزة، واتبع أٍساليب قانونية واحتجاجية وشعبية من أجل إنقاذ حياة من تبقى في القطاع. في حين أن الطعام الصحيّ، وتلويث لوحة موناليزا أشبه بمن يطالب بـ"بهواء نقي" لجميع سكان العالم عبر التبول في الشارع احتجاجاً، عوضاً عن الاحتجاج أمام شركات تصنيع السيارت، أو على الأقل كما فعل مزارعو فرنسا الذين ضربوا حول العاصمة باريس حصاراً بآلياتهم، بسبب الخسائر التي يتكبدونها نتيجة استيراد المحاصيل الأوكرانيّة.
مقارنات كهذه تصح حين نقارن بين ناشطين فردانيين مغرقين في "أناهم"، وبين آخرين يدركون كيفية عمل "العالم"، أو على الأقل فرنسا نفسها التي تشير إحصائيات إلى ثلاثة آلاف مواطن فرنسي من مزدوجي الجنسية يقاتلون إلى جانب جيش الاحتلال الإسرائيلي، ولا نعلم إن كانوا سيحاكمون في فرنسا إن هم ارتكبوا جرائم حرب في قطاع غزة. وفي حال لم يعاقبوا، هل رش تماثيل رودان باللون الأحمر سيحرك القضاء الفرنسي؟ أم الاعتصام أمام المحكمة في سبيل إصدار مذكرات تحقيق بحقهم؟
ضمن سلسلة الاحتجاجات لأجل البيئة وضد الطعام الملوث والتخلص من الوقود الأحفوري، التي ما زالت مستمرة منذ سنوات، أطل أخيراً، أمام كتيبة "ياهسام 179" في قاعدة ناهشونيم (الرّواد) في إسرائيل، الكوميدي إيلاي هافيف الذي ألقى نكتة أمام الجنود مفادها: "لا وقت لدينا في الحرب كي نكون حريصين على البيئة!". بالطبع، قسوة النكتة وسماجتها لا تقارب الوضع المأساوي في قطاع غزة، لكنها تكشف آلية عمل "العالم".
هنا، نقول للناشطين مخربي اللوحات: هناك مجاعة في قطاع غزّة. ما رأيكم أن تحتجوا لأجل إطعام الأطفال هناك؟ الكبار في القطاع مُستعدون لأكل الطعام "المضرّ"، عوضاً عن طحن أعلاف الحيوانات لصناعة الخبز.