بدأ الاحتفال السنوي بمولد السيدة نفيسة في القاهرة، الأربعاء الماضي، بمشاركة وفود من مريدي جميع الطرق الصوفية في مصر الذين حضروا إلى المنطقة المحيطة بالمسجد، ليقيموا فيها الليالي ذوات العدد، إذ يستمر المولد لمدة أسبوع كامل إلى أن تقام الليلة الكبيرة باحتفال ضخم اليوم.
في هذا الأسبوع، تنتشر خيمات الطرق الصوفية وحلقات الذكر في الميدان المجاور للجامع، وعلى هامشها تكثر الأطعمة والوجبات المجانية والذبائح والنذور، وينتشر الباعة الجائلون والألعاب الشعبية، بينما تشهد الليلة الختامية دعوة كبار المنشدين مثل الشيخ ياسين التهامي ومحمود التهامي في الخيمة الرئيسية للمولد حيث تجتمع أفواج من الناس لحضور الليلة الكبيرة.
على كثرة ما يروى عن أصحاب المشاهد الصوفية، فإن المشهور عن صاحبة هذا المشهد أنها بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب. عاشت السيدة نفيسة بين سنتي 145 و208، ولقبها الناس في عصرها باسم "نفيسة العلم"، لارتباطها بمجالس العلم تعلماً في المدينة المنورة وتعليماً في القاهرة. تزوجت إسحق المؤتمن بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وأنجبت له القاسم وأم كلثوم. انتقلت للحياة في مصر سنة 193هجري، وحين انتقل الإمام محمد بن إدريس الشافعي (150-204هـ) إلى مصر أيضاً سنة 189هـ، توثقت صلته بها، كما أنها نفذّت وصيته بالصلاة عليه عند وفاته. وذكر المقريزي أنها توفيت في زمن الوالي العباسي لمصر عبيد الله بن السري الذي اهتم بها في حياتها وشيّد قبرها.
توجد العديد من المؤلفات التي خصصت موضوعها للحديث عن حياة ومناقب السيدة نفيسة، مثل كتاب "السيدة نفيسة بنت سيدي حسن الأنور" لأحمد الشهاوي سعد، و"مآثر السيدة نفيسة رضي الله عنها" لرمضان أحمد عصفور، و"الجواهر النفيسة في مناقب السيدة نفيسة" لمحمد بن عبد الخالق بن حسن، وغيرها من الكتب، لكن أطرف عناوين الكتب التي اتخذت من السيدة نفيسة موضوعاً لها كتاب "محاكمة مبارك... بشهادة السيدة نفيسة" لضحى عاصي، وهو دراسة اجتماعية أنثروبولوجية كان الهدف منها رصد التغيرات الاجتماعية التي طرأت على المجتمع المصري، عبر قراءة الرسائل التي يضعها الناس في أضرحة الأولياء، سواء أكانت تغيرات في الوعي أم في الاحتياجات أم في طبيعة المشكلات أم في الطلبات.
يقع مسجد وضريح السيدة نفيسة في حي الخليفة (درب السباع سابقاً) جنوب القاهرة، ويطلق الناس على الطريق الذي يقع فيه اسم "طريق آل البيت"، لما يضمه من مساجد ومقامات شهيرة مثل مشهد الإمام علي زين العابدين، والسيدة زينب بنت علي، والسيدة سكينة بنت الحسين، والسيدة رقية بنت علي، والإمام محمد بن جعفر الصادق، والسيدة عاتكة عمة الرسول.
أعاد الفاطميون بناء القبر في زمن المستنصر بالله (420-487هـ)، وأضافوا إليه قبة، ودوّنوا ذلك على لوح رخامي وضع على باب الضريح. وفي عهد الخليفة الفاطمي الحافظ لدين الله (467–544هـ) أعيد تجديد تلك القبة، بعد أن أصابتها الشروخ والتصدعات، ثم كُسي المحراب بالرخام وذلك سنة 532هـ (1138م). وفي عهد الأمير عبد الرحمن كتخدا (وفاته سنة 1190هـ - 1776م)، الوالي العثماني على مصر، أعيد تجديد المشهد، حيث بني الضريح على هذه الهيئة التي هو عليها الآن. كما جُددت المقصورة النحاسية الموجودة في الضريح في عهد والي مصر عباس الأول (1813-1854م).
وللمسجد مدخل للرجال وآخر للنساء، وتم تجديد المدخلين حديثاً، وفرش المسجد بالرخام الفاخر. وداخل المسجد، يوجد ممر طويل يصل إلى الضريح، ويضم الممر لوحات نقشت عليها عبارات وأشعار في مدح أهل البيت.
يمتاز تاريخ مولد السيدة نفسية عن غيره من الموالد الشعبية بأنه بدأ بقرار رسمي من السلطة الحاكمة في العصر المملوكي في إطار الدعاية السياسية. ووفقاً للمؤرخ القاهري ابن إياس الحنفي (1448-1524م) في كتابه "بدائع الزهور في وقائع الدهور"، فقد صدر مرسوم سلطاني من السلطان قيتباي سنة (889هـ-1484م) بعمل مولد السيدة نفيسة، وطلب من الخليفة العثماني "الصوري" أن يحضر ومعه القضاة الأربعة وأعيان الناس، وأن يجتمع هناك قراء البلد قاطبة، ومدّت أسمطة حافلة بالطعام والشراب، وصار الناس يطلقون عليه مولد الخليفة. وكان الخليفة وفق هذا التاريخ هو المتوكل على الله عبد العزيز بن يعقوب (1416-1497م). ومنذ ذلك الحين لم تتخل أي سلطة حكمت مصر عن فكرة الاحتفال بهذا المولد!