مهمة سرية في كوريا الشمالية"... التوثيق الصحافي يصنع فارقاً

16 أكتوبر 2020
"الخلد" أولريك لارسن (تويتر)
+ الخط -

قبل أكثر من 12 سنة أصبح الصحافي الدنماركي، ومخرج الأفلام الوثائقية، مادس بروغر (48 عاماً)، شخصا غير مرغوب فيه في كوريا الشمالية. لكنه لم يستسلم لقرار منعه من دخول بيونغ يانغ، فخطرت فكرة اختراق كوريا الشمالية على طريقة أفلام الجاسوسية، وكان هدفه استمرار عمله الاستقصائي حول آلية نظام كيم جونغ أون في الإفلات من عقوبات الأمم المتحدة. 

ونظراً إلى أن نظام كوريا الشمالية الخاضع لعقوبات قاسية، لا يسمح بدخول الصحافيين إلا إذا كانوا تابعين لأنظمة تشبهه، وتربطه بهم علاقات وثيقة، فهو يُعتبر نظاماً منغلقاً، ولا يسمح لمواطنيه الاختلاط بالعالم الخارجي، إلا لمن يعمل في صفوفه لجلب المال من الخارج، ولو عن طريق إرسال عمال كوريين شماليين إلى دول أخرى ليتلقى هو رواتبهم ويعطيهم فقط ما يسد رمقهم. على تلك الخلفية، جنّد الصحافي بروغر مواطنين دنماركيين عاديين للعب دور هام في وثائقي اشتغل عليه لعقد.


10 سنوات من العمل الاستقصائي 
من كوبنهاغن، اتفق بروغر مع هيئات البث العام التلفزيونية في الدول الاسكندينافية، "دي آر" الدنماركية و"أس في تي" السويدية و"إن آر كي" النرويجية، بالإضافة إلى "بي بي سي" البريطانية، على إنتاج مشترك لوثائقي فضح "طرق كيم السرية للتغلب على العقوبات الدولية". 

ورغم السجال حول طريقة عمل بروغر خلال 10 سنوات، وخصوصاً تعريض حياة المخترق لخطر الانكشاف، إلا أن عمله أثمر عن وثائقي من 3 أجزاء: "الخلد - مهمة سرية في كوريا الشمالية". 
اللافت خلال أيام من بدء عرضه (مساء الأحد 11 أكتوبر/تشرين الأول) الاهتمام الواسع لوسائل الإعلام والمستويات السياسية المحلية والأمم المتحدة بهذا التوثيق الأشمل، من حيث الوثائق ووجوه نظام كيم واختراعهم آليات ممنهجة بعضها عبر محطات وأدوات أطراف ثالثة، بينها عربية، بل والاعتراف في أحد مقاطع الجزء الثالث المصورة سرا في فندق بكوبنهاغن من قبل مندوب نظام كيم أن الطريقة التي يشتغلون فيها "طريقة مافيا". وهو ما يثير اليوم أيضاً سجالاً حول عدم انتباه الاستخبارات الدنماركية وغيرها لتجول رجال كيم في دولهم لعقد صفقات.  

طاف الوثائقي لعشر سنوات على عواصم ومدن عدة. دبي حضرت كمنفذ كوري شمالي، مثلما استحضر الوثائقي طريقة تسويق السلاح إلى سورية وإيران، والحصول على النفط في عرض المياه الدولية، على طريقة تفريغ شحنات ناقلات في البحر الأبيض المتوسط لنفط روسي وإيراني لمصلحة نظام الأسد، بناقلات دنماركية (كشف عنها أيضا تقرير استقصائي آخر قبل عامين شكل فضيحة وصدمة في كوبنهاغن). 


تحضير "الخلد" المتطوع لاختراق مؤيدي كيم
قبل نحو 10 سنوات، تواصل مادس بروغر بعد منعه من دخول بيونغ يانغ، مع طباخ دنماركي (حاصل على تقاعد مبكر بسبب مشاكل صحية)، ويدعى أولريك لارسن، عارضاً اختراق كوريا الشمالية. أخبر الصحافي لارسن أنه لا يملك مالا لمنحه كأجرة، بيد إن التركيبة الشخصية للارسن لعبت دوراً حاسماً لقبوله المهمة متطوعاً. فهو، كما سيثبت منذ الأحد الماضي، تاريخ الكشف عن الوثائقي المثير لضجة كبيرة، يحمل أفكارًا معارضة للأنظمة الشمولية، وذلك عن تجربة شخصية بنظام ألمانيا الديمقراطية سابقا (دي دي آر). 

وللوصول إلى مطبخ صناعة القرار للالتفاف على العقوبات وجلب الأموال للنظام في بيونغ يانغ، كان على الطباخ المتطوع أن يكتم السر حتى عن زوجته وأطفاله ومحيطه، وأن يتحول إلى مؤيد متعصب لكيم جونغ أون والنظام الكوري الشمالي من خلال الالتحاق بـ"جمعية الصداقة الكورية - الدنماركية" في كوبنهاغن، وباجتماعات أخرى للجنة للصداقة الدولية مع بيونغ يانغ التي يتزعمها وجه كوريا الشمالية مع الغرب، الإسباني أليخاندرو كاو دي بينوس (وهو لعب دورا في طرد بروغر من كوريا الشمالية) والذي سيكون مفتاحاً هاماً في اختراق لارسن لقلعة كيم.  

لم يخلُ العمل الصحافي الذي كان يديره بروغر في الظل من مخاطر انكشاف "الخلد" (the mole)، وخصوصاً في أحد لقاءات برشلونة في منزل أليخاندرو الذي أخرج آلة كشف كاميرات وميكروفونات، وهي التي كان يخفيها المخترق لارسن في ملابسه وأغراضه. وحصل بعدها لارسن على دورة سريعة من أحد عملاء "سي آي إيه" السابقين للدفاع عن النفس وصد محاولة اكتشافه. 

وللمضي أكثر في تعزيز مكانة أولريك لارسن في جمعية الصداقة الدولية ولدى أليخاندرو كاو دي بينوس، وسفارة كوريا الشمالية في السويد، اقترح "الخلد الدنماركي" بحماسة تقديم مستثمر دنماركي ثري للعمل من أجل الالتفاف على الحصار المفروض على كوريا الشمالية.

وفي الأثناء، وهذا أيضا يخضع لسجال، كان المخرج قد وجد دنماركيا آخرا ليلعب دور ثري نفطي، وهو في الحقيقة ليس سوى مروج "حشيشة" سابق، وقضى 8 سنوات في سجون الدنمارك. وببعض التدخل التقني ودورات سريعة، صار المحكوم السابق يكنى بـ"مستر جايمس" (على طريقة جايمس بوند). ينضم "جايمس" إلى الفريق الثلاثي، ويتعرف على "الخلد لارسن"، فيلعب دور الثري الأنيق، والمستثمر الذي لا يهتم سوى بجني المال. 

التوثيق.. خطط كشف المستور 
من خلال كاميرات وميكروفونات سرية وكاميرات علنية لتوثيق دعائي لكوريا الشمالية من قبل "الرفيق لارسن" المتحمس للزعيم كيم، يكتشف المشاهد وقوع الكوريين الشماليين في فخ الصحافي بروغر. فأمام الثقة المتزايدة بالطباخ لارسن يرتقي في العلاقة أكثر فأكثر، ومن خلال تقديم "المستثمر" المزيف وملايينه تفرد الأوراق صريحة: يجري توثيق كل ورقة بالتصوير السري، وبعد التوقيع على عقود مغرية. فالخطة تقضي مفاوضة المستثمر لمندوبي حكومة بيونغ يانغ (من أوسلو شمالاً إلى برشلونة وعمّان وعواصم أفريقية وبكين وكمبوديا إلى بيونغ يانغ) للكشف عن طرق تصدير ما لديهم، ليحصلوا على المال نقداً.

فوجئ المشاركون في الوثائقي بعروض الكوريين الشماليين، حتى العام الماضي 2019، لبضاعتهم: لوائح أسلحة خفيفة مضادة للدروع والطائرات إلى صواريخ بالستية، وأسعار ومدة التسليم. مضاف إلى ذلك مخدرات "امفيتامين (لميثامفيتامين) وريتالين" التي تُنتج على الأراضي الكورية وفي دول ثالثة، والاستثمار بمناجم ذهب.  

يبدو الكوريين الشماليين من خلال ما يظهره الوثائقي في حالة يأس للحصول على المال، ولم يأبهوا أن شخصاً لا يعرفون خلفيته يوقعون معه صفقات بملايين الدولارات، تشمل أسلحة بالستية

يبدو الكوريين الشماليين من خلال ما يظهره الوثائقي في حالة يأس للحصول على المال، ولم يأبهوا أن شخصاً لا يعرفون خلفيته يوقعون معه صفقات بملايين الدولارات، تشمل أسلحة بالستية، بل وخطة لبناء مصنع سلاح تحت الأرض على جزيرة في أوغندا، وفوقه منتجع سياحي ومطار، بعد أن يدفع "مستر جايمس" 5 ملايين دولار لشراء الجزيرة، وهو ما وُثق بلقاءات مع حكوميين مرتشين.

في الوثائقي، يظهر لارسن (الخلد) و"مستر جايمس" في العاصمة الأردنية عمّان، حيث يقابلون رجل أعمال في مكتبه، بعد لقاء أول في فندق، وهو متخصص بتهريب النفط إلى كوريا الشمالية، ويرد اسم ميناء خليجي (دبي) كنقطة تبديل. يطلب رجل الأعمال الأردني من "الخلد" البقاء منفرداً مع "مستر جايمس"، دون أن يعرف أن الكاميرات السرية تسجل، فيبوح مُطمئناً للمستثمر المزيف أنه "على علاقة بمستويات عالية"، وهنا يُسمح صفير يُغطّي اسم تلك المستويات. يذكر معدو الوثائقي، بحسب ما تابع "العربي الجديد"، أنّ منع ذكر اسم الشخصية علنية يتعلق بـ"قضايا قانونية". ويُترك للمشاهد تخيل من هم المسؤولون الرفيعون الذين يغطون التهريب مع بيونغ يانغ، رغم العقوبات الدولية. 

ما يثير في الجزء الثالث (بعنوان "اتفاقية كوبنهاغن")، بعد اكتفاء الصحافي مادس بروغر بما وثقه، وسعي الكوريين لرؤية المال نقداً، قيام "الخلد" بالاتصال عبر حاسوبه بالإسباني أليخاندرو كاو دي بينوس من أحد فنادق كوبنهاغن، صوتاً وصورة ليخبره: كل ما تم خلال السنوات الماضية جرى تسجيله وتوثيقه، وأريدك أن تعرف من الذي كان يقف خلف هذا الوثائقي... إنه مادس بروغر. هنا يتقدم بروغر ليظهر نفسه لأليخاندرو الذي يصاب بصدمة ويغلق حاسوبه.

ومثلما صدم أيضا الكوريون الشماليون في سفارتهم باستوكهولم التي زارها "الخلد" مرات عدة، صُدمت زوجة المخترق لارسن من عمل زوجها لعشر سنوات دون علمها، وهنا تدخل مخرج الوثائقي ليشرح لها أي "عمل بطولي" قام به زوجها، لكنها لم تخفِ قلقها على حياة أسرتها مستقبلاً، بعد انكشاف هويته.

عمل صحافي يحرك السياسة
أثار توثيق طرق اختراق حكم كيم للعقوبات الدولية سجالاً كبيراً، حيث ذهب الإثنين، وزير خارجية الدنمارك ييبا كوفود إلى التعبير عن "الصدمة" مما وثقه الفيلم، متفقاً مع جارته السويد على "ضرورة بحث القضية على المستوى الأوروبي والأمم المتحدة". وجدير بالذكر أن التلفزيون الدنماركي أشار صباح الثلاثاء إلى أن الأمم المتحدة طلبت مثول "الخلد"، أولريك لارسن، أمام لجنة العقوبات لبحث طرق الالتفاف على العقوبات، مع تأكيد منتجي ومخرج الوثائقي استعدادهم لتسليم كل الوثائق للأمم المتحدة. 

أثبت الوثائقي أن التأني والصبر، وربما المغامرة التي خاضها الصحافي، والمنتجون، وإن استخدم أشخاصاً غير صحافيين في المهمة، يمكن أن يلعب دوراً حاسماً في تأكيد دور الإعلام والصحافة في توثيق كثير من القضايا، ولو استمر العمل 10 سنوات على ذلك، كما هو الحال مع سلسلة "الخلد - مهمة سرية في كوريا الشمالية".

المساهمون