في إطار التكريمات المختلفة، في الدورة الـ19 (11 ـ 19 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022) لـ"المهرجان الدولي للفيلم بمرّاكش"، تسلّم المخرج الأميركي جيمس غراي "نجمة مرّاكش الذهبية" من الممثلة الفرنسية ماريون كوتيار، تكريماً لمسارٍ وضعه في مقدّمة مؤلّفي جيله الثّابتين على تحقيق صرحٍ فيلميّ هائل بصدقه وثرائه الجمالي ونطاق طرحه، يُترجم مساعي فنّية لاكتشاف المجهول ظاهراً، وسبر أغوار النفس البشرية في الباطن، مع لازمات مثل تمرير الشاهد بين الأجيال، والعلاقة الإشكالية مع الأب.
قبل عرض آخر أفلامه وأكثرها شخصانية، "يوم هرمجدون"، عن طفولته ما قبل انتخاب رونالد ريغان -من دون أنْ يمنعه ذلك من تناول ثيمات بالغة المُعاصَرَة، كجدوى الوقوف مع الحقّ، وتأثير الاختيارات الفردية في المآلات الجماعية- حثّ غراي، في خطابه، الفنّانين على مواصلة الإبداع "لأنّ العالم بحاجة ماسّة إلى أعمالهم"، مُقدّماً مثلاً على أهمية السينما، وكونها أعظم فنٍّ أنتجته البشرية، بعدد الأفلام الخالدة، المُنتجة في الأعوام القليلة التالية لاكتشاف السينما الناطقة، ما يدلّ على مدى تعطّش الإنسانية وتوقها الدفين إلى الفنّ السابع، كوسيلة تعبير جديدة، ذات بلاغة خاصّة.
أما المخرجة المغربية الرائدة فريدة بنليزيد، فركّزت، في خطاب تكريمها بنجمة ذهبية، على محطّات من مسارها، الذي يكاد يعكس مراحل تطوّر السينما المغربية، انطلاقاً من إنتاج "جرحة في الحائط" (1978) للجيلالي فرحاتي، أحد الأفلام المؤسِّسة لتوجّه سينما المؤلّف في المغرب، مروراً بأول وأجمل أفلامها كمخرجة، وأحد أهمّ الأفلام الحاملة للحساسية النسوية في الإخراج الأفريقي والعربي: "باب السما مفتوح" (1988)، قبل أنْ تضع بصمتها على أولى خطوات النجاح الجماهيري للأفلام المغربية، بكتابة سيناريو "البحث عن زوج امرأتي" (1993)، لمحمد عبد الرحمن التازي، بعد مساهمتها مع الراحل نور الدين الصايل في كتابة نصّ فيلم مهمّ آخر، للمخرج نفسه، بعنوان "باديس" (1989).
شكّلت بادرة تكريم النجم البوليوودي الشاب رانفير سينغ ("غولي بوي" لزويا أختار) استمراراً لعادة المهرجان في إتاحة الفرصة للجمهور المراكشي، الشغوف بالسينما الهندية، والمحتشد كلّ مساء في ساحة "جامع الفنا" للقاء نجومه المفضّلين، في وصلات احتفاء يمتزج فيها الرقص بترديد مقاطع غنائية من أفلام المكرّم.
تكريم الممثلة البريطانية تيلدا سوينتن من أكثر لحظات الدورة الـ19 تأثيراً وتوحّداً مع روح فنانة من طينة العظماء بعد أنْ سرد المخرج السويدي روبن أوستلوند، في كلمته، لائحةً بأسماء المخرجين المرموقين المحظيّين بفرصة إدارتها في أفلامهم، متسائلاً بحسرة: "لماذا لستُ ضمن هذه اللائحة؟". ثم عُرض فيلم مونتاج قصير لمقتطفات من أعمالها، أظهر لمحةً عن حربائيتها الأسطورية المتنقّلة بين الأشكال والأنواع السينمائية، والطيف الواسع للأحاسيس، الذي تستدعيه بنظراتها ولغة جسدها، مُقتصدةً تارة، وانفجاريةً تارة أخرى. ثم ظهرت بقامتها الفارهة، وشخصيتها الكاريزمية، على مسرح "قاعة الوزراء" في "قصر المؤتمرات"، ككائن خرافي خرج للتوّ من عالم الخيال، تحت سيل تصفيق حارّ وطويلٍ للحضور الواقفين جميعهم. وضعت سوينتن يدها على فمها، غير مُصدّقة أنّها ستتسلّم "نجمة ذهبية" من يدي ابنتها، في مفاجأة حرص المنظّمون على إخفائها، ثمّ تمالكت نفسها بصعوبة، لتركّز في خطابها على المكانة الخاصة التي يحظى بها مهرجان مرّاكش في قلبها، مُشبّهةً ميليتا توسكان، مستشارة الأمير مولاي رشيد، رئيس المهرجان، بـ"حورية البحر التي لا يستطيع أحدٌ مقاومة إغراء ندائها"، ومُثنيةً على تموقع مسابقة المهرجان كمنصّة لاكتشاف المواهب الصاعدة وإطلاقها، ومُذكّرة بدور السينما في تحقيق عيش الثقافات ومزجها، خاتمةً كلمتها بنداء "تحيا السينما. يحيا الاختلاف".
افتُتح المهرجان بـ"بينوكيو"، فيلم تحريك لغييرمو دِلْ تورو ومارك غوستافسون، الذي يقدّم قراءةً جديدةً في رائعة كارلو كولّودي عن الدمية الخشبية. يموقع السيناريو الأحداث، بضربة معلّمٍ، في زمن الفاشية الإيطالية، ليقول أشياء مهمّة للغاية، عن تقبّل الاختلاف، والحدود بين الآدمية والتوحّش، عاكساً إحدى الثيمات المحورية في مُنجز الجهبذ المكسيكي.
شكّل عرض "ولد من الجنّة" لطارق صالح قمةً شاهقةً في فئة العروض الاحتفالية "غالا"، بفضل مشاعر التوتّر الحابس للأنفاس، والطرح المتسامي بتساؤلات حارقة وغير مهادنة عن ظاهرة التديّن المنافق، ومأزق امتزاج الدين بالسياسة في المجتمعات العربية. يحكي الفيلم، بمفاتيح تمزج بين نوعي التجسّس والتعلّم، قصّة آدم (توفيق برهوم)، الشابّ الملتحق بالأزهر للدراسة، فيلفي نفسه وسط دوامة من الدسائس، وحرب دنيئة جداً بين أطراف تجسّد السلطتين الأمنية والسياسية، الساعيتين لبسط نفوذهما على المعلَمَة الدينية، واللتين يمثلهما الضابط إبراهيم (أداء كبير لفارس فارس) من جهة، وقوى ظلامية تحاول جرّها إلى هاوية التطرّف، في الجهة الأخرى. كلّ ذلك عبر نصّ يمتح من الازدواجية والتّأرجح، المُتيحَين لتعدّد القراءات. وتُعدّ شخصية الشيخ "نجم"، المؤثّرة برماديّتها واستعصائها على التصنيف، أبرز نجاحاته، يُطرّز على منوال عناصر من الثقافة الشعبية المعاصرة (مسابقات اختيار أفضل الأصوات، استعراض المناظرات الانتخابية، إلخ.) مشاهد عظيمة تقول، من داخل ميكروكوسم الأزهر، مصير المواهب المتفرّدة في المجتمعات الوصولية، وتتمثّل ببلاغة الصورة وميكانيزمات طبخ نتائج الانتخابات، ذات نسب النجاح التسعينية.
حضر السينمائي الأميركي بول شرايدر، رغم متاعبه الصحّية، لتقديم فيلمه "البستاني الرئيسي"، تمثيل جويل إدغيرتون وسيغورني ويفر، مُبلّغاً رسالة اعتذار عن الغياب من صديقه أوسكار آيزاك، ومُشيداً، بحساسيته النقدية، بروعة فيلم طارق صالح، الذي حرص على متابعته في "قاعة الوزراء". وضع شرايدر، بفيلمه الأخير هذا، لبنة جديدة في سلسلة أفلامٍ كبيرة، تستكشف دواخل شخصيات معقّدة، تنتدب العزلة وتدوين المذكّرات، والغوص في مجالات اختصاص تستغرقها بالتفاصيل، وتنتشلها من ماضٍ مأسوي، يلجم العقول والقلوب، ويلتصق بالجلود، في انتظار خلاصٍ تبحث عنه بمرافقة شخصيات بريئة في رحلتها للانعتاق.
بعد التديّن في "فورست ريفورمد" (2017)، وعالم المقامرة في "عدّاد الأوراق" (2021)، جاء دور البستنة في "البستاني الرئيسي"، في نصّ يُقيم توازياً مُعبّراً بين خصوصيات تلاقح الأجناس والانبعاث بعد الموت لدى النباتات، وتضارب دواخل شخصية البستاني بين ماضي العنصرية في صفوف النازية الجديدة، ونداء الحبّ الباعث مع شابة سمراء تقاوم إدمان المخدّرات.
أما الفلسطينية مها الحاج، فصاغت، في فيلمها الطويل الثاني "حمّى البحر المتوسط"، حكياً مُرهفاً، وحواراً دالاً يمتح بكوميديا سوداء، ويعكس -بموشور أفلام نشوء الصداقة، واستعارة الاكتئاب- وضعية وليد، رجلٌ فلسطينيّ انطوائي (أدّاه ببراعة عامر حليحل)، يعيش في حيفا، ويسعى لأنْ يصبح كاتباً. لكنّ وصول جار مُقبل على الحياة يقلب وجوده رأساً على عقب، ويأخذهما معاً في رحلة روحية، غير مأمونة العواقب، تتخلّلها لحظات غموض وتشويق، كمَشاهد الصيد الليلية الآسرة، التي صاغتها المخرجة بتحكّم ودقّة، رغم البساطة الظاهرة لأسلوبها.
قسم "عروض خاصة" أتاح مُشاهدة أفلام معاصرة لمخرجين نالوا الإشادة من نقّاد ومهرجانات دولية، كـ"المحكور ما كيبكيش" للمغربي الإنكليزي فيصل بوليفة، و"عودة إلى سيول" للكمبودي دافي شو، و"لا دببة" للإيراني جعفر بناهي، و"تحت الشجرة" للتونسية أريج السحيري. خلق "ملكات"، للمغربية ياسمين بنكيران، احتفاءً كبيراً بسخاء الممثلات نسرين الراضي ونسرين بنشارة وريحان غاران وجليلة التلمسي، وطرافة حميد نيدر في دور ضابط شرطة إنساني. يعتمد الفيلم على جمالية أفلام الطريق، وحوار ذكيّ وطريف، لرصد تقارب أمّ عازبة، فارّة من السجن، مع ابنتها وفتاة أُرغمت على الزواج من دون حبّ. جانب خرافة "عيشة قنديشة"، التي تعبر الحكي، يبدو متكلّفاً إلى حدّ ما، وطابع النسوية الأولية المُقحم لم يسدِ خدمةً جيدةً للفيلم، حين نأى به عن الصدق والإبداع في مفاتيح النوع، إلى نيات متشنّجة.
يظلّ عرض "سانت أومير" للفرنسية أليس ديوب أحد أرفع لحظات المهرجان، التي أفصحت عن أحد أجمل أفلام العام، بقصّة مستوحاة من أحداث حقيقية، عن روائية شابّة تتابع محاكمة لورانس كولي (غوسلاجي مالاندا)، الأمّ المتّهمة بقتل ابنتها البالغة من العمر 15 شهراً، بتخلّيها عنها في أحد شواطئ شمالي فرنسا. فيلمُ محاكمة، يأخذ وقته في سرد الوقائع، بحوارٍ مكتوب بعناية فائقة، ودقّة في التعابير والأوصاف، لتوضيح وجهات النظر، وخلخلة قناعات الروائية راما (كايجو كاغيم) والمشاهدين حول مدى صدق الأم، وجعلهم يتساءلون عن معنى الإدانة وموقع المسؤولية، في ارتباطٍ بخطّ مباشر مع إرث جان رونوار، والجملة الشهيرة في حوار "قواعد اللّعبة" (1939): "آفة هذا العالم أنّ لكلّ (واحدٍ) دوافعه".
أكملت البانوراما عقد الأفلام المغربية الـ15، المعروضة في مختلف أقسام المهرجان، كجديد فوزي بن السعيدي "أيام الصيف"، و"عبدلينو" آخر أفلام هشام عيّوش، و"أسماك حمراء" لعبد السلام الكلاعي، و"زيارة" لسيمون بيتون، و"في زاوية أمي" لأسماء المدير. هذه الأفلام شاركت في الدورة الـ22 (16 ـ 26 سبتمبر/أيلول 2022) لـ"المهرجان الوطني للفيلم بطنجة".
أمّا أفلام "القارة 11" -المتّسمة بجرأة التناول وقوّة الثيمات، ببرمجةٍ تمزج السينما المعاصرة بكلاسيكيات مُرمّمة حديثاً من السينما العربية والأفريقية- فشكّلت، بتطلّبها وفرادة اقتراحاتها الجمالية، فرصة لهروب جمهور متحف "إيف سان لوران" في رحلات حسية رفيعة، كـ"الإبحار في الجبال" لكريم أينوز، و"مونا موتو" لجون بيار ديكونغي بيبا. وكان أوجها عرض "ترجيع وتشغيل"، فيلم مونتاج بديع للسنغالي آلان غوميس، أنجزه انطلاقاً من صُوَر خام لبرنامج فرنسي، سُجِّل مع موسيقي الجاز ثالونيوس مونك، قبل حفلته المسائية في باريس عام 1969. يبدو مونك في الفيلم ضحية منزوعة الإرادة لآلة إعلامية، لا تتوانى عن تعذيبه معنوياً، بحثاً عن صُنع أكبر قدر من الصُور النمطية بشاعةً حوله. كجميع المؤلّفين، ينحو غوميس بالفيلم (رغم أنّه لم يُصوّره، مستعيناً بمعجزة المونتاج واختيارات راديكالية) إلى ثيمته الأصلية: ممرّ عذاب تقطعه الشخصيات بحثاً عن خلاصٍ ما، حيث تحضر الموسيقى، غالباً، بشكل ما.
أما "باسيفيكشن"، التحفة الحسّية والتشكيلية للدّاندي الإسباني الموهوب ألبرت سيرا، فتقع في مكان ما بين "تحت البركان" لجون هيستون، و"موانا" لروبيرت فلاهيرتي: قصّة مُفوّض سامٍ للجمهورية الفرنسية في تاهيتي (أكبر جزر بولينيزيا الفرنسية)، يواجه تداعيات انتشار شائعة، مفادها قرب استئناف التجارب النووية الفرنسية في الجزر. بنزعةٍ عبثية، لا تخلو من إشارات بليغة عن مأزق الإنسان الغربي، وروابط الاستعمار، ونزعة التدميرية الذاتية الحاضرة في ثيمة التجارب النووية، يُبطل الفيلم كلّ نيات السرد الاعتيادي، لفائدة تأمّلٍ عميق للتناقضات الكامنة في الجنس البشري، بفضل مَشاهد منزاحة، تمزج إطارات مغرقة في سحر الطبيعة البولينيزية، المحيلة إلى الفردوس المفقود، وأجواء السلاح النووي، المُهدِّد بفناء موعود.