مهرجان كارلوفي فاري... سينما أوكرانية ترصد أهوال الحرب

02 اغسطس 2022
عرض في المهرجان فيلم "رؤية الفراشة" لمَكْسِم ناكونكْشْني (كريستوف سيمون/فرانس برس)
+ الخط -

للحرب تأثيرٌ سلبي دائم ومباشر على صناعة السينما، في أي مكان في العالم. من التأثيرات الأكثر وضوحاً لها، أن السينما الأوكرانية أصبحت، فجأة، في دائرة الضوء، وصارت تكتسب رؤية أكبر في المهرجانات وخارجها. مثلاً "مهرجان كارلوفي فاري السينمائي"، اختار لدورته الـ56 (1 ـ 9 يوليو/تموز 2022)، 4 أفلام روائية أوكرانية، عرضها في قسم "آفاق"، ووثائقي ليتواني بعنوان Mariupolis 2، قُتل مخرجه مانْتِس كفادرافتشس (عالم أنتروبولوجيا وآثار، إلى جانب كونه مخرجاً وثائقياً)، في 2 إبريل/نيسان 2022، أثناء تصويره يوميات الحرب الروسية على أوكرانيا (بدءاً من 24 فبراير/شباط 2022)، مُقدِّماً (الفيلم) شهادة فريدة عن الحرب والمدينة، التي أصبحت أحد رموزها المأسوية. كذلك، في إطار دعم أوكرانيا ثقافياً، قدّم المهرجان التشيكي العريق شراكة مع مشروع Works In Progress، الخاص بـ"مهرجان أوديسا السينمائي".

استعادة حرب 2014

 فيلمان روائيان في تلك اللائحة تجري أحداثهما عام 2014، في بدايات الحرب الروسية على أوكرانيا، والأهمّ بينهما، سينمائياً، "كلوندايك" (2022) لماريا إر غورباتش، الذي يكتسب أهميته من أسلوب رسم شخصياته، خاصةً شخصية المرأة إيركا، وطريقة سجن أبطاله. يعيش زوجان أوكرانيان في إقليم "دونيتسك"، المتنازع عليه. خارج الكادر، يُعرف أن منزلهما تضرّر بقصفٍ غير مقصود، أثناء سقوط الطائرة المدنية الماليزية وتحطّمها، في 17 يوليو/تموز 2014، بعد إصابتها بصاروخ، بسبب النزاع الدائر بين الانفصاليين، المنحازين للروس، والقوات الأوكرانية، راح ضحيته (الحادث) 298 مدنياً.

ينتظر الزوجان طفلاً، فالمرأة حامل في شهرها السابع. لا يريدان أنْ يكونا جزءاً من الحرب، لكنّ الخيار ليس لهما، فالجيش يقترب تدريجياً من منزلهما، سواء أرادوا ذلك أم لا، وهما مجبران على التعامل معه. كما أن جيرانهما انحازوا بما يكفي لإلقاء القنابل عليهم. الآن، أصبح سلامهما محفوفاً بالمخاطر. يبدو أنّ كلّ شخص خارج المزرعة يتوقّع منهما الانحياز، إما مع أو ضد. أثناء تدمير أرضهما ومزرعتهما، تنكشف صراعات متفجّرة بين الأفراد، ذوي توجّهات مختلفة. أصدقاء الزوج الانفصاليون، السكارى كما تصفهم الزوجة، يواصلون إسقاط الانفجارات، متوقّعين انضمامه إلى الحركة، ومؤكّدين على أنهم حين "يتحولون إلى روسيا سيعيشون كالملوك". بينما شقيق الزوجة قوميّ، يُدافع عن أرضه وحدوده، ويُغنّي أغاني حماسية أوكرانية، ويتعارك مع زوج شقيقته لأنّه لم يتّخذ موقفاً مناهضاً للانفصاليين، من دون أنْ يصفه بالخائن، مُعتبراً إياه عبداً ذليلاً، خضع لرغبات الانفصاليين، وذبح بقرته لأجلهم، ومنحهم كلّ شيء بلا مُقابل.

رغم التوتّر الحاصل في المشاهد، منذ بداية الأحداث، تتصاعد حدّته تدريجياً، مع محاولة الزوجين الفرار من المنطقة المُلتهبة، لكنّهما لم يستطيعا ذلك لأن الطرق مغلقة، ولن يُسمَح بعبور أحدٍ باستثناء الأجانب. يبلغ التوتر أقصاه في الدقائق العشر الأخيرة، مع دخول وحدة من الجيش الروسي، تنصب قواعد صواريخها في دارهما، غير عابئة بآلام المخاض التي تعانيها الزوجة، وصولاً إلى المواجهة بين الزوج وشقيق زوجته، مع طلب قائد الجيش الروسي أنْ يقتل أحدهما الآخر، وختاماً بمشهد الزوجة التي تعاني مخاضاً عسيراً قبل موعده، من دون مساعدة أحد.

يكشف "كلوندايك" وحشية الحرب وعبثيتها، وفيه إدانة للأجانب الذين كانوا شهوداً عليها ولم يُحرّكوا ساكناً، بل لاذوا بالفرار أو الصمت، إلاّ عندما تضرّرت مصالحهم مباشرة. كما يُدين الانفصاليين، الذين تسبّبوا في اندلاع حرب أهلية في أوكرانيا، إذْ بدأت الأحزاب الموالية لروسيا القتال نيابة عنها، إلى أنْ أعلنت روسيا الحرب رسمياً، بإرسال جيشها إلى أوكرانيا.
الفيلم الثاني بعنوان "انعكاس" (2021)، لفالنتِن فاسيانوفيتش، تدور أحداثه قبيل إلقاء القبض على جرّاح يُواجَه بالعنف والتعذيب، ويشهد مقتل شقيق زوجته على أيدي الروس، فيحاول تهريب جثمانه، بينما يرضخ لطلب الروس تسجيل فيديو، بعد تهديده، يعترف فيه باختراقه الحدود الروسية وتنفيذه أعمال عنف. ثم يعود إلى وطنه، ويظهر تعامله مع ابنته وطليقته، ومحاولته العيش بعد تعرّضه لفظائع كهذه.
المشكلة الرئيسية كامنةٌ في ضعف رسم الشخصيات وتصويرهم. الكاميرا بعيدة دائماً، كأنّها تصوّر من خلف زجاج، ولا تُمنح فرصةً للاقتراب منها أو التعاطف معها. كما أنّ المشاهد طويلة أكثر من اللازم، ومن دون داعٍ، ومن دون أنْ تصنع تأثيراً ما. حتّى تلك التي أصبحت فيها الابنة المُراهقة صديقة والدها بعد عودته، فهذه مَشاهد باردة جداً.

جرائم أخرى

ثالث تلك الأفلام بعنوان "رؤية الفراشة" (2022) لمَكْسِم ناكونكْشْني، يُذكِّر بأفلامٍ كثيرة تناولت حرب البوسنة والهرسك، وجرائم الجنود الصرب، كاغتصابهم النساء، ما أدّى إلى ولادة جيلٍ يحمل هوية مزدوجة. البطلة مُجندة (29 عاماً)، خبيرةٌ في الاستطلاع الجوي، وتعمل في خطّ المواجهة من خلال طائرة من دون طيار. تعود إلى المنزل بعد احتجازها شهرين، وتكتشف أنّها حامل بسبب اغتصاب حارسها لها. في الوقت كلّه، ترفض هذه المرأة المتردّدة دور الضحية، وتتساءل عن مدى الاضطهاد الذي يُعانيه المرء في مجتمع محاصر بالحرب. هل ستنجح في النجاة من الصدمة وإنقاذ الطفل، في مجتمع غير مُستعدّ لقبول أي منهما؟

بعيداً عن أجواء الحرب العسكرية، أُنجز "بامفير" (2022)، لدمِترو سُكُليتكي سوبتشيك. العنوان يعني الصخرة، وأحداثه تجري في منطقة حدودية بين أوكرانيا وبولندا، فيها غابات محاصرة بالضباب والمخاطر، يحكمها فساد فظيع. الجريمة أداة وحيدة للعيش، كتهريب السجائر ومواد أخرى إلى رومانيا، عبر نفق يُديره رجلٌ قوي النفوذ، يتّضح لاحقاً أنّه مسؤول حكومي عن الغابات البيئية، يدعمه رئيس الشرطة.
يعود بامفير من العمل في بولندا، بعد غياب 7 أعوام، لرؤية زوجته وابنهما المُراهق، بينما تستعد القرية لإحياء مهرجان "مالانكا"، الذي ينطوي على طقوس برّية جريئة. بامفير نفسه مهرّب، لكنّه تخلّى عن التهريب لإصرار زوجته، قبل 7 أعوام، وبعد حدثٍ غير مُحدّد، جعله يُلفت نظر والده. بعد لَمّ شمل العائلة، والشعور بالسعادة، تتدهور الأمور سريعاً، بسبب تصرّف أحمق من ابنه المُراهق، يضطر معه إلى العودة إلى التهريب، فتبدأ قصّة رجل له تقديره، ربّ عائلة يقع في فساد البلدة الصغيرة. قصة يأس أيضاً، وحدود رمزية ومادية، ومدى جرأة عبورها لحماية الحدود الشخصية.

وثائقي كفادرافتشس

الوثائقي الوحيد عن حرب أوكرانيا لمخرجٍ غير أوكرانيّ. فبعد 6 أعوام على فيلمه الأول "ماريبوليس"، يعود مانْتِس كفادرافتشس إلى أوكرانيا، عقب الغزو الروسي الأخير، ويبقى هناك ليكون مع أشخاصٍ التقاهم وصوّرهم عامي 2014 و2015. يُصوّر بدهشةٍ استمرار الحياة، والواقع اليومي القاسي للمدينة، التي تتعرّض للقصف، مُقدّماً نماذج بصرية لأهالي المدينة المنكوبة، المُحمّلة بالمأساة والأمل في آن واحد. لكنّ كفادرافتشس يدفع حياته ثمن عودته إلى هناك. وبفضل منتجيه ومتعاونين معه، أُنجز "ماريبوليس 2"، ليكون شهادة واقعية عن الحرب، وعن الأوكرانيين.
لم يكتفِ "مهرجان كارلوفي فاري السينمائي" بعرض هذه الأفلام، إذْ قرّر دعم المخرجين الأوكرانيين وصناعة السينما في البلد، عبر مشروع تعاوني مع "مهرجان أوديسا السينمائي الدولي (OIFF)"، بعدما تسبّب الهجوم العسكري الروسي غير المسبوق على أوكرانيا في اضطرابات كبيرة في الحياة الثقافية.

وأقيمت ندوة عن الحرب نفسها، شارك فيها الممثل الهوليوودي لياف شرايبر، الأميركي ذو الأصل الأوكراني، فتحدّث عن جدّه لأمه (أوكراني)، الذي عاش بصحبته بعد انفصال والديه في سنّ باكرة، والذي تعلّم منه الكثير. وقال إنّ هذه الحرب جعلته يفكّر في جذوره الأوكرانية، لافتاً الانتباه إلى ضرورة توخّي الحذر مع وسائل الإعلام إزاء ما تروّجه من أفكار مغلوطة، و"علينا أن نحذر إزاء ما نستهلكه". لكنّه، في الوقت نفسه، عبّر عن عدم ارتياحه لفكرة المقاطعة الثقافية، في إشارة إلى منع عرض الأفلام الروسية: "فكرة فرض رقابة على الفنانين أو مقاطعتهم، أمرٌ صعبٌ لي. أشعر بالتحدّي إزاءها. بالتأكيد، أحد الأشياء التي أحبّها في الفن أنّه إذا كان هذا صحيحاً، فإنّه يستحقّ المعرفة والمشاهدة".

المساهمون