بعدما شهدت صُوَر الدمار الذي خلّفه انفجار مرفأ بيروت، استضاف درج مار نقولا في منطقة الجميزة، في لبنان، "مهرجان كابريوليه للأفلام القصيرة"، في دورته الـ13 التي انطلقت يوم الجمعة الماضي وتختتم الليلة، على أن يتواصل اليوم عرض الأفلام القصيرة وعددها 56، من أصل نحو 3000 عمل سينمائي، تقدّم للمشاركة في دورة هذا العام. في دورته الثالثة عشرة، أقيم "مهرجان كابريوليه" في إطار مختلف تماماً عن كلّ السنوات السابقة. فدرج الجميزة، الذي يعكس تاريخ وحضارة هذه المنطقة، ما زال يحمل ندوب التفجير الدموي، الذي هزّ لبنان والعالم، في الرابع من آب/ أغسطس 2020. إنّها دورة "وجود"، وإثبات للفن والسينما وللمبدعين.
في هذا الإطار، يشرح مؤسّس ومنظِّم المهرجان، إبراهيم سماحة، سبب اختيار عنوان "وجود" شعاراً لدورة هذه السنة، قائلاً، في حوار مع "العربي الجديد"، إنّ "هذه الدورة أشبه بالمشي على الجمر، مع شعور مترافق بالحماسة المطلقة. قلوبنا ما زالت تحترق على مدينتنا. لكنّ حماستنا إزاء الفنّ، وشغفنا المطلق به، لا يمكن إطفاؤهما". واعتبر هذه السنة "استثنائية، وسط الدمار". نجمة المهرجان، هذا العام، هي الكاتبة والمخرجة والممثلة اللبنانية نادين لبكي، التي تحمل هذه الدورة اسمها.
لبكي شاركت في إعلانٍ دعائي خاص بالمهرجان، يُظهر وجهها تحت الماء، وهي تجهد في التنفّس، في إشارة مباشرة إلى حالة الاختناق التي يشعر بها اللبنانيون بعد الانفجار، وفي ظلّ الأزمات المتلاحقة في البلد. لكنّ بطلة الشريط تتفوّق على هذا الغرق الرمزي، وتلتقط أنفاسها، لتوجّه رسالة مؤثّرة، تناقلها كثيرون عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مفادها أنّ الفنّ قادرٌ على ملء الأمكنة كلّها، حتى تلك التي يسكنها الوجع، وأنّ الفنانين باقون في البلد رغم كلّ شيء.
الإعلان لم يحاكِ الهوية اللبنانية، وتهديد وجود لبنان والمواطن اللبناني فقط، بل يحاكي أيضاً الحركات العالمية، ومنها حركة "I CAN’T BREATH" (لا أستطيع التنفس) التي انطلقت من الولايات المتحدة الأميركية. يقول سماحة، عن الشعور بالاختناق الذي يجسّده الشريط الدعائي: "كلّ شيء في محيط درج مار نقولا، وفي الجميزة، تدمّر. هذا واقعنا. على الصعيد الخاص، تدمّر مشغلي بالكامل. بالتأكيد نحن نختنق، وتردّدات المياه وفقعاتها دلالات رمزية على انفجار بيروت، وظهرت في الشريط لتنقل هذه الرسالة، لأنّنا حاولنا أن نقول إننا نعاني، وإننا مخنوقون ومُتعبون، لكننا باقون، لأن شغفنا بالفنّ، وحبّنا لهذه المدينة، أقوى من شعورنا بالاختناق أو الهزيمة. فبيروت مثلنا، تتألّم. لكنّها ما زلت تحتضننا، ولها نقول شكراً". عن مساهمة لبكي في المهرجان، المخصّص للأفلام القصيرة، يقول سماحة: "في كلّ عام، هناك موضوع أو محور محدّد، ويشارك فيه أحد الفنانين. في الدورة الماضية، شارك الكاتب والممثل والمسرحي جورج خباز.
في دورة عام 2019، شارك الممثل بديع أبو شقرا، وقبله ندى أبو فرحات ورودريغ سليمان وريتا حايك وجوليا قصار. كلّ نسخة تستند إلى صورة كلّ نجم، لتوجيه شكرهم وشكر السينما من خلالهم. انطلاقاً من ذلك، لا يمكن، بعد كلّ ما قامت به نادين لبكي على الصعيد السينمائي والإنساني، إلّا أنْ تكون نجمة المهرجان هذا العام. وجودها داعم لوجود المهرجان نفسه، ولاستمراره. إلى جانب مخرجين آخرين، وضعَتْ لبنان على خريطة السينما العالمية. فضلاً عن أنّ اسمها مرتبط بمدينة بيروت ارتباطاً مباشراً". عن شعار "الوجود"، الذي تحمله دورة هذه السنة، يقول سماحة: "أحدٌ لم يكن يتجرّأ على تنظيم المهرجان هذا العام. هذه مغامرة بحدّ ذاتها. نحن لا نختار موضوع المهرجان، بل الموضوع يفرض نفسه. نحن نعيش الآن في لبنان في حالة وجودية، في ظلّ الوضع العام، وجائحة كورونا التي تهدّدنا جميعاً. ورغم أنّها طاولتني وعائلتي بشكلٍ شرس، كنتُ مُصرّاً على المشاركة في اختيار أفلام هذه الدورة، وعلى إقامتها، رغم كلّ المآسي. فالمسألة مسألة وجود، بالنسبة إلينا كفنانين". وعن طرح المواضيع والإشكاليات القائمة في لبنان في المهرجان، من الانتفاضة إلى الوضع الاقتصادي، فضلاً عن الأزمة العالمية بسبب كورونا، يقول سماحة: "بمعزل عمّا إذا كانت هذه المواضيع مطروحة في الأفلام المشاركة أو لا، فإنّ مجرّد وجود المهرجان يُعتبر حالة وجودية للفن.
في هذا الإطار، أذكر أنّه حين عُرض على تشرشل، في الحرب العالمية الثانية، التخفيف من تكاليف الحرب، أجاب ببساطة: لماذا نقوم بحرب. بالتالي، البلد الذي لا يوجد فيه فنّ وثقافة، بلدٌ ميت. الأمر الوحيد الذي سنتذكّره هو الفنّ والثقافة، فمهما حصل، تبقى فيروز وصباح والرحابنة ونادين لبكي وسائر المبدعين، فيما لن يتذكّر أحدٌ أسماء مسؤولين أو وزراء ونوّاب، غائبين عن مسؤولياتهم تجاه البلد. في المدى الطويل، الفنون والفنانون هم الذين يصنعون هذه الهوية الإنسانية لكلّ بلد".
يُشارك في دورة هذه السنة 56 فيلماً، من بلدان عدة: لبنان وألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا والهند والمكسيك ومصر والبحرين والإمارات. ورغم أهميتها، لم تأخذ الأفلام القصيرة حقّها في لبنان. يقول سماحة: "الفيلم القصير مُهمّ جداً، يُركّز على موضوع واحد، على عكس الأفلام الطويلة، ويوصل رسالته بنحوٍ سريع ومباشر إلى المُشاهد، بحسب رؤية الكاتب والمخرج لنهاية الفيلم، إلّا أنّ موضوعه واحد ومركّز".
غايات "مهرجان كابريوليه" فنّية بحتة، ويتيح للناس مُشاهدة الأفلام في الهواء الطلق مجاناً، كما يتيح لصنّاع السينما الشباب منصّة عرض لأعمالهم، تفتح لهم نافذةً على المهرجانات العالمية. المهرجان لا يقدّم جوائز للمشاركين، ولا يُصنّف الأفلام المشاركة: "جائزته ليست عبارة عن فوز بمراتب، بل مجرّد اختيار فيلم لضمّه إلى لائحته يشكّل فوزاً للسينمائيين الشباب". يشرح سماحة: "نحن متعاقدون مع 23 مهرجاناً في العالم، نأخذ منها أفلاماً، ونعرضها، شرط أنْ تأخذ في المقابل أفلاماً لبنانية وتعرضها بدورها. هذه جائزة بحدّ ذاتها للفيلم اللبناني. جائزة المخرج قبول عرض فيلمه في أحد هذه المهرجانات، في دول العالم. "مهرجان كابريوليه" رافعة للمخرجين الشباب، وللأفلام اللبنانية، لكي تصل إلى المهرجانات السينمائية العالمية". يُنظَّم المهرجان في الهواء الطلق، وتُعرض الأفلام على شاشة معلّقة على جدران درج الجميزة، حيث تحتضن سماء بيروت هذه الفعالية الثقافية. يؤكّد سماحة: "المهرجان مفتوح في مساحة عامة للجميع. لا نقيّد الحاضرين بأيّ شرط. نكتفي بالتنبيه إلى ارتداء الكمامة، حرصاً على السلامة، واحتراماً لهذه المساحة العامة".