"مهرجان غوتنبرغ الـ46": انحياز سينمائيّ إلى الحرية

20 يناير 2023
"نزوح" لآبي حسّان: فيلم عربيّ لافتتاح الدورة الـ46 (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

كلّ ما يحدث في العالم ينعكس سريعاً في السينما. سرعة التفاعل، وإنجاز أفلام في زمن الأزمات والمحن الكبرى، باتا صفة ملازمة لصنّاعها. تتجلّى دقّة التوصيف عند تجميع هذا كلّه في إطارين، زمني ومكاني، مُحدَّدين، كما تفعل المهرجانات السينمائية عادةً. "مهرجان غوتنبرغ" ليس استثناءً، كما لاحظ مديره الفني يوناس هولمبري، في مراجعة ما اختاره مبرمجو الدورة الـ46 (27 يناير/كانون الثاني ـ 5 فبراير/شباط 2023) من أفلامٍ وثيمات، تجلّت شدة انغماس صنّاعها في محيطهم.

في إيران، اعتقلت أجهزة المخابرات، قبل مدة قصيرة، الممثلة ترانه عليدوستي، لنشاطها ومطالبتها بكفّ السلطات عن قمع المرأة وحريتها. في الآونة الأخيرة، صار العالم يسمع بسقوط سينمائيين أوكرانيين على الجبهة. دفاع السينمائيين في إيران وأوكرانيا عن حريتهم، دفع المهرجان إلى الوقوف معهم إبداعياً. في العام الماضي، اقتطع من ميزانيته مبلغاً لصندوق دعم السينمائيين الأوكرانيين. برنامج الدعم أثمر "بامفير" لديمترو سوخوليتكي ـ سوبتشوك، و"لا باليسيادا" لفيليب ستونيتشينكو، اللذين سيُعرضان في دورة هذا العام، إلى جانب أفلام إيرانية، لها صلة بالاحتجاجات الشعبية فيها، كالوثائقي "كيف تجرؤ على امتلاك مثل هذه الرغبة الوضيعة" لمانيا أكبري، و"إنقاص" (تبديل للعنوان الأصلي بالإيرانية "تفرقة") لماني حقيقي (تمثيل عليدوستي نفسها)، وفيلم جعفر باناهي، "لا يوجد دببة".

تعقد الدورة في جوّ مأزوم: حروب وهجرات، وأزمة اقتصادية متفاقمة، تفرض نفسها على السينمائيين، وتدفعهم إلى قراءتها وفق رؤاهم الشخصية، ومن زوايا مختلفة، لها صلة بواقعهم المُعاش. تُفرد للهجرة ثيمتها السنوية، وتُختار لها أفلام تتناولها من منظور فلسفي ووجودي. "العودة إلى الوطن" عنوانٌ جامع لأفلام، لا تنشد كلّها توافقاً، مع هاجس الحنين المُلازم لأكثرية تاركي أوطانهم. هناك أفكار تعاكسه، تجد في أمكنةٍ أخرى خلاصاً أبدياً لها من عذاب الأوطان، وغيرها يتأمّل حالة من لا يزال يصارع لبلوغ ما يصون آدميّته.

فيلم الافتتاح "نزوح" (2023)، للّبناني السويدي آبي حسان، لافتٌ في توافقه مع الفكرة: صبيّة سورية، تجد نفسها في مكان بعيد عن موطنها بسبب الحرب. تنشأ بينها وبين مهرّبها علاقة إنسانية، تثير التفكير في التباس جوانيات الكائن البشري. أفلام كثيرة تناول مخرجوها موضوع الهجرة، من أهمّهم السويدي يان ترويل (1931)، المُحتَفَى به في هذه الدورة، بمنحه "جائزة التنين الشرفية لدول الشمال"، الذي تشغل فكرة الهجرة، وعلاقة المهاجر بموطنه الجديد، مساحة كبيرة في اشتغالاته، ومنها تحفتاه الكلاسيكيتان "المهاجرون" (1971) و"البُناة الجدد" (1972). في الأول، أعاد قراءة رواية فيهلم موبري، عن المهاجرين السويديين الأوائل إلى أميركا، سينمائياً؛ أكملها بالثاني، الذي كتب السيناريو الخاص به مُشاركة مع بينغت فوشلوند. استذكار منجزه يضمّ أفلاماً أخرى غير هذين، مصحوباً بندوات ومحاضرات عن مجمل منجزه الغني والوفير، الذي لم يتوقّف عن تحقيقه، حتّى بعد بلوغه 90 عاماً.

كغيرها، لن تمرّ الدورة الجديدة من دون ابتكار علامة تميّزها. احتفاءً بفوز فيلمه "مثلث الحزن" بالسعفة الذهبية في الدورة الـ75 (17 ـ 28 مايو/أيار 2022) لمهرجان "كان" السينمائي، اقترح منظّموها على روبن أوستلوند إلقاء محاضرة على الجمهور، بالأسلوب والشكل اللذين يريدهما. يختار لمحاضرته (هذه سينما) شكلاً جديداً.

يُعرض الفيلم كخلفيةٍ على الشاشة، التي يقف أمامها كبقية الحاضرين، طالباً منهم مشاركته، والتفاعل مع ما يطرحه من أفكار ومعلومات عبر الهاتف المحمول، الذي يجده خصماً له، يُفسد جهده وجهد غيره من السينمائيين، حين ينشغل الناس بالنظر إلى شاشته في عرض الفيلم. لا يرى في اكتفاء الحضور بالذهاب إلى صالات السينما، ثم العودة إلى منازلهم من دون أن يحملوا معهم أسئلة عما شاهدوه، عدلاً. لن يكون عدلاً أيضاً أنْ يعامل الجمهور جهد سنوات (دام الاشتغال على فيلمه نحو 5 أعوام) بخفّة.

لهذا، يطلب من الراغب في حضور ندوته (3 ساعات ونصف الساعة) ملء استمارة خاصة، تتضمّن معلومات شخصية عنه وعن خلفيته، حتى يعرف هو جيداً مع مَنْ يتحاور، وكيف يفهم الضيف فيلمه. يأمل المُحاضر، بالأسلوب الذي اختاره، أنْ يعاد النظر في العلاقة القائمة اليوم بين الفيلم والجمهور، وصولاً إلى تفاعل مختلف، يثير أسئلة، ويحفّز الناس على التفكير بالفيلم، وبما يُبطنه.

 

 

العلاقة بين المهرجان وجمهوره لم يقلّ زخمها. للبقاء على مستوياتها المعهودة، التي تمثّل واحدة من بين أكثر تَميّزاته شعبيةً، إلى جانب "شماليته"، تحشد الدورة في 11 يوماً 250 فيلماً من 80 بلداً، لدول الشمال واسكندنافيا الحصّة الأوفر منّها، ولها تكرَّس أكثر الجوائز والأقسام. مسابقة دول الشمال، برئاسة الممثلة الإيرانية السويدية زار أمير إبراهيمي (آخر أفلامها "عنكبوت مقدّس"، لعلي عبّاسي)، تضمّ أفضل ما أنتج حديثاً، وفيها مراجعات تاريخية كثيرة، كـ"دَعْ النهر يجري" (2023)، للنروجي أولي جيفر: دراما تاريخية، بطلتها معلّمة من الشعب السامي الأصلي، تتعرّض في مدينة نرويجية للاضطهاد والتمييز، بسبب عرقها.

من النرويج أيضاً، "مونش" (2023)، الذي يتناول فيه مخرجه هنريك مارتين دالسباكين مرحلة من حياة الرسّام الشهير إدوارد مونش. في مراجعة تاريخية إضافية، يُقدّم الدنماركي فريديريك أسبوك، في "إمبراطورية" (2023)، قراءة مؤثّرة للإرث الاستعماري لبلده في الهند الغربية؛ ومثله، يستعيد المخرج الآيسلندي هلينور بالماسون، في "غودلاند" (2022)، فترةً من مرحلةٍ، هيمن الدنماركيون فيها على بلده ثقافياً، عبر قصّة راهب دنماركي، يذهب، نهاية القرن الـ19، في رحلة شاقّة، لبناء كنيسة فوق أراضيه.

في المسابقة الوثائقية، تسبق سمعة الدنماركي البولندي المشترك "أوبولونيا، أبولونيا" (2022)، لليا غْلوب، عرضه، بينما ينتظر الجمهور السويدي رؤية ملكهم على الشاشة، في "الملك" (2023)، لكارين أف كلينتبيري. أمّا المسابقة الدولية، فتضمّ تقليدياً أفلاماً جيدة، أغلبها من عروض العام السابق للدورة. من بين تلك التي حظيت بقبول نقدي، "أزرق القفطان" (2022)، للمغربية مريم التوزاني.

ضَمُّ روائي عربي إلى المسابقة الدولية، واختيار فيلم الافتتاح لمخرج عربي الأصل، أمران مهمّان ولافتان للانتباه. لكنّ الحضور العربي لم يقتصر عليهما، فدورة هذا العام تعاملت مع الجيّد من نتاجه، بما يستحقّ. أُدرِجَ فيلم العراقي الفرنسي عباس فاضل، "حكايات البيت الأرجواني" (2022)، في قسم "ماستر"، والفلسطينيّان "عَلَم" (2022) لفراس خوري و"حمى البحر المتوسط" لمها حاج في قسم "رحلة". إلى جانبهما، هناك الوثائقي اللبناني "كشكش: من دون الريش ما فينا نعيش" (2022) لليا نجار، والروائي الطويل الأول للتونسية أريج السحيري، "تحت شجرة التين" (2022).

الحضور العربي يُقابله حضور عالمي من القارات كلّها، ما يضع غوتنبرغ بين المهرجانات المُوَفَّقة في دقّة توازنها بين تخصّصها والانفتاح على سينمات العالم.

المساهمون