مهرجان برلين للجاز... إعادة توزيع على الوتريات

13 نوفمبر 2022
أفرِدت مساحات واسعة للعازفين ليرتجلوا جماعةً أو فرادى (كرستينا ماركس)
+ الخط -

إن سئل عاشق للموسيقى، مُلمٌّ بأجناسها وألوانها، عن الآلات التي تعزف عليها فرق الجاز، لتخيّل مباشرةً عدّة الطبول (الدرامز) والصنوج ترافقها نبضات الكونتراباص الداكنة، ترتجل على قرعها الحيوي والمنتظم، أسرة أبواق النحاس النفخية كالترومبيت، الترومبون والأكثر جدّة كالساكسوفون بصنوفه، التي تتنوّع بحسب المدى الصوتي، مرتفعاً كان أم منخفضاً.

كما كثيراً ما يدخل البيانو بشكل رئيس، والغيتار الكهربائي بصورة أقل، وأحياناً آلة النفخ الخشبية، الكلارينيت. تتواءم تلك الآلات مع روح الموسيقى الحماسية والراقصة، وحتى مع الاسم الذي اشتُهِرت به: جاز، المشتق من جازم (Jasm)، والكلمة تعني الطاقة والحيوية.

كما أن لشيوع تلك الأبواق البرّاقة وتَصدُّر أصواتها الحادة والصدّاحة بقية الآلات المعروفة سبباً تاريخياً؛ فالجاز قد نشأ في ولاية نيوأورلينز الجنوبية. منذ تحرير العبيد سنة 1865، بموجب الفصل الثالث عشر من دستور الولايات المتحدة حديث العهد حينئذ، كثيرٌ من الأفارقة الذين انخرطوا في القتال زمنَ الحرب الأهلية عزفوا على الآلات النحاسية ضمن الفرق العسكرية. وفي زمن السلم، صارت الطبول والأبواق وسائلهم لأجل التعبير الموسيقي، ومكوناً تقليدياً للمشهد الثقافي الخاص بهم، كما هي الحال خلال الأعياد والمناسبات، خصوصاً ضمن الولايات الجنوبية.

الفريق التنظيمي لمهرجان برلين للجاز Jazzfest Berlin (إحدى التظاهرات السنوية التي تُقيمها مؤسسة مهرجانات برلين Berliner Festspiele في العاصمة الألمانية)، يبدو هذه السنة، كما لو أنه سعى إلى الخروج عن ذلك المكون التقليدي. إضافة إلى الكونتراباص، الآلة العملاقة الحاضرة دوماً في أغلب الفرق، مُنِحت بقية الآلات الوترية ذات الأقواس حيّزاً واسعاً من دورة هذا العام، التي اختُتِمت أخيراً.

آلة التشيلّو، الأصغر حجماً، ظهرت بصفة رئيسية في مناسبتين، وذلك عبر حضور العازفة الأميركية تاميكا رايد (Tomeka Reid)، التي شاركت منفردةً، كعضوة بمجموعة موسّعة، إذ قدمت ارتجالات تجريبية، تجريدية تحاكي أسلوب الموسيقى الجديدة (Neue Musik)، ثم انضواءً ضمن فريق رباعي وتري ساهمت شخصياً في تأسيسه، على هامش مهرجان سابق أقيم في مدينة شيكاغو الأميركية؛ وذلك تشكيلٌ غيرُ مألوف بين تشكيلات الجاز.
 
قدم الرباعي الوتري عملاً بعنوان "ذهب مينغوس" (Mingus Gold). مقطوعة صممها عازف الساكسفون يوليوس همفيل (Julius Hemphill)، تُعيد تقديم عدد من الألحان المعروفة، من بين تلك التي وضعها أسطورة آلة الكونتراباص تشارلز منغوس (Charles Mingus /  1922-1979). سواءً عبر الأداء، أو عبر المعالجة التوزيعية، التي اتبعها مؤلف العمل في إعداده للموضوعات اللحنية، تناهت المقطوعة تحت أقواس آلتي الكمان والفيولا، إضافةً إلى التشيلو، كمسعى إلى طمس الحدود التي تفصل بين مجال التأليف والقولبة، وبين مجال التفريد والارتجال.


 
حفاظاً على سمة الحرية المميزة لموسيقى الجاز، أفرِدت مساحات واسعة للعازفين. ضمنها، ارتجلوا حيناً جماعةً، وحيناً فرادى. مرّات على الطريقة التقليدية لموسيقى البلوز والراغ - تايم، التي عرفتها الموسيقى الأفرو-أميركية بدايات القرن العشرين، ومرّات بأسلوب الموسيقى الجديدة، حيث الارتجالات أكثر اعتماداً على المؤثرات الصوتية منها على الانتقالات الهارمونية، وأكثر قرباً من الضوضاء، منها إلى الانسجام التام.

من وجهة سمع نقدية، لئن مثل الرباعي الوتري تشكيلاً موسيقياً كلاسيكياً عريقاً، تطور على مدى القرون الأربعة الماضية، وتبلور بوصفه واحداً من أكثر أشكال موسيقى الحجرة اكتمالاً، لجهة التأليف والأداء، من غير اليسير تحديد ما إذا كان الفريق الوتري الذي أسسته رايد، وتُشارك به وُتشرف عليه، رباعياً وترياً حقاً، يرقى إلى مستوى الرباعيات الكلاسيكية المحترفة، التي قضت عقوداً في التدريب والأداء معاً، إلى أن أصبحت الآلات الأربعة بين أيادي أعضاء الفريق أشبه بآلة واحدة.

ثم إن العازفين قد جرى مدّهم بمكبرات الصوت، على طريقة إدارة حفلات الجاز، ما ضرّ بالتوازن بالغ الدقة، الذي يُميز اللون الخاص المُميز لانصهار أصوات أسرة الوتريات حين تعزف معاً؛ فطغى صوت الكمان الأول والفيولا، على كل من الكمان الثاني والتشيلّو، ليأتي العزف مفتقداً إلى الخملة اللونية التي تميّز صوت الرباعي الوتري.

من جهة نظر ثقافية، تصب رغبة منظّمي المهرجان، على عدمَ الاكتفاء بالمألوف من آلات الجاز النفخية، وتسليط مزيدٍ من الضوء على الآلات الوترية الكلاسيكية، وهي تؤدي ارتجالات البلوز والأسلوب الحر (Free Style) في مساع إلى مواجهة ضعف تمثيل الموسيقيين السود الأفارقة والموسيقى الأفرو-أميركية ضمن مجال الآلات الوترية بشكل عام، وعلى مدى تاريخها. إذ يندر إلى اليوم، اعتلاء عازفي وتريات سود البشرة مسارح العالم، يؤدون منفردين على الكمان، الفيولا أو التشيلو. غصلاً عن قلة حضورهم ضمن أعضاء الفرق الأوركسترالية، حتى في الولايات المتحدة الأميركية ذاتها.

بحسب تجمّع الفرق الأوركسترالية قي الولايات المتحدة الأميركية (The League of American Orchestras)؛ فإن نسبة أقل من 2% من الأعضاء الأميركيين هم من السود، وأن أدنى من نسبة 4% من قادة الأوركسترا هم من السود. بينما استقطب الجاز بآلاته التقليدية، النفخية والإيقاعية، والموسيقى الجماهيرية، كالراب والآر أند بي R&B، معظم الطاقات الموسيقية الأفرو-أميركية.

هنا، يفوت الكثيرين، أن سوناتا الكمان والبيانو، التي ألفها بيتهوفن سنة 1803، المعنونة بـ "كرويتزر" تيمّناً بأسطورة العصر في العزف على الكمان رودولف كرويتزر (Rodolphe Kreutzer / 1766-1831)، كانت قد أدّيت لأول مرة من قبل عازف كمان أسود البشرة، بريطاني من أصل أفريقي يُدعى جورج بريدج تاور (George Bridgetower / 1778-1860).

من هنا، قد أغنى مشهد الأقواس على دورة مهرجان جاز برلين لهذا العام، وهي تُسحب على الأوتار إما يميناً ويساراً، أو لأعلى ولأسفل، وحمّل فعالياته بمضامين التنوّع والتعددية؛ قد لا تستطيع الوتريات في النهاية مضاهاة الأبواق النحاسية في الشدة الصوتية، بمواجهة عدّة الطبول (الدرامز) التي تُعد العمود الفقري لموسيقى الجاز.

إلا أن حضورها، بالمقابل، ينسجم مع المظلة الثقافية الواسعة اضطراداً، التي يُراد للجاز أن يُمثّلها ضمن الثقافة الغربية المعولمة، بوصفه البوتقة الموسيقية الأشد حرارة، والطيف الجامع لجميع الألوان.

المساهمون