مها الجابري... عندما تلتقي الأغاني في الغروب

07 يناير 2025
حرص أكثر الملحنين السوريين على تقديم أعمالهم عبر صوتها (فيسبوك)
+ الخط -
اظهر الملخص
- البدايات والتميز الفني: وُلدت مها الجابري في حلب عام 1932، وبرزت كصوت نسائي مميز في الطرب الحلبي، حيث اكتشف والدها موهبتها ودعمها في الغناء والعزف على العود، متميزة بأداء القوالب الكلاسيكية مثل الموشحات والأدوار.

- الشهرة والتعاون: بدأت شهرتها في 1956 مع الشاعر شاكر بريخان، وبرزت في التلفزيون السوري منذ 1960، متعاونة مع ملحنين بارزين مثل سليم سروة وسهيل عرفة، ولقبت بـ"أم كلثوم سورية".

- الإرث الفني: رغم الإهمال في سنواتها الأخيرة، تركت إرثاً فنياً غنياً بأغانٍ شهيرة مثل "شو بيصعب عليّ"، وتوفيت في 1982، لكنها لا تزال تُذكر كأحد أبرز الأصوات النسائية السورية.

ربما لم تعرف الأجيال الجديدة في سورية اسم المطربة مها الجابري (1932 ــ 1982)، ولا سيما أن أكثر من أربعة عقود قد مرت على رحيلها. لكن المهتمين بالطرب السوري يعرفون أن الجابري امتلكت صوتها ممتازاً، وحازت قدراً من الجماهيرية المقترنة بالاحترام، بسبب امتناعها عن الغناء في الحانات أو الملاهي الليلة، أو التورّط في أداء أغانٍ قد يراها الجمهور دون المستوى المنتظر من مطربة تربت على أداء القوالب الكلاسيكية.

تمثل مها الجابري نموذجاً مهماً، لأنها من ضمن مجموعة قليلة من الأصوات التي مثلت الطرب النسائي الحلبي، فرواد الغناء والتلحين والإنشاد والعزف في مدينة حلب كانوا دائماً، وفي الأغلب الأعمّ، من الرجال، لكن حين اكتشف عادل الجابري جمال صوت ابنته التي حملت بالأصل اسم مُيَسَّر، قرّر أن يوفر لها ما تستحق من رعاية وتدريب.

حفظت نصوص القصائد الراقية، وتمرّست بأداء الأدوار والموشحات، وأتقنت العزف على العود، لكنها بقيت تقدم فنها في جلسات الأسرة والأقارب والأصدقاء من دون أن تحترف الغناء، إلى أن جاء عام 1956، ووصل صيتها إلى الشاعر والملحن شاكر بريخان، الذي كان يقدم برنامج شهرة الميكروفون في إذاعة حلب، فقرر زيارتها بصحبة الموسيقيين إبراهيم جودت وعزيز غنام. أقنعها بريخان بأن ينطلق صوتها عبر برنامجه.

ومن خلال أغنية من ألحانه، كان وراء اختيار اسم مها لتشتهر به المطربة الصاعدة. في عام 1960، أُنشئ التلفزيون السوري، فكانت الجابري من ضمن مجموعة الأصوات الحلبية التي استعان بها التلفزيون، وكلهم من أعلام الطرب الكبار المشتهرين في العالم العربي.

اشتهرت الجابري في الأوساط الفنية بمقدرتها على أداء القوالب الغنائية الكلاسيكية، وبقدرتها في الوقت عينه على أداء أشكال الغناء المصري الأكثر حداثة، ولا سيما أعمال أم كلثوم وعبد الوهاب وأسمهان، ما يعني أنها ستسير في طريقها الخاص، وبألحان تنسج لها، تتسم بروح عصرية واضحة، بعدما أصبح هذا اللون مطلباً تلفزيونياً وسينمائياً، وإن لم يكن هو المقدم في مجالس الطرب الحلبية، التي تحصر اهتمامها بالموشحات والأدوار والقدود والقصائد المرسلة والموقعة.

استلزم التعاون المستمر مع التلفزيون السوري والإذاعة المركزية من الجابري أن تنتقل من حلب لتقيم في العاصمة دمشق، وبدأت تعاوناً مع الملحّن سليم سروة الذي قدمها باعتبارها مطربة صف أول، تنال المساحة التي ينالها الأعلام من طبقة صباح فخري ومحمد خيري ومصطفى ماهر. لكنها اشتهرت أيضاً بأداء أغاني أم كلثوم، فأدّت "أراك عصي الدمع"، و"رباعيات الخيام"، و"قصة حبي"، وكلها من ألحان رياض السنباطي. إلى جانب ذلك، قدمت قصيدة "أفديه إن حفظ الهوى أو ضيَّعا"، التي لحنها الشيخ أبو العلا محمد، وطقطوقة "حبيبي يسعد أوقاته" التي لحنها زكريا أحمد.

حرص أكثر الملحنين السوريين على تقديم أعمالهم عبر صوت الجابري، فتعاون معها عدد كبير، في مقدمتهم: شاكر بريخان، وسليم سروة، وإبراهيم جودت، وسهيل عرفة، وأمين الخيّاط، وسمير حلمي، وعزيز غنام، وزهير عيساوي، وزكي محمد، وعبد الفتّاح سكّر، وسعيد قطب، وفؤاد محفوظ، ونزار مورهلي، وياسر المالح، وياسين العاشق، وعدنان أبو الشّامات، تمثيلاً لا حصراً. وقدّم إليها الملحّن نجيب السّراج مجموعة من الأغاني، من أشهرها "فينا ننسى الدّنيا فينا". ولحن لها محمد محسن عدة أغانٍ، منها قصيدة "أبداً تحنّ إليكم الأرواح" للشّاعر العباسي شهاب الدّين السّهروردي، وأغنية "بالله يا دار" من الشّعر القديم.

كانت الجابري تقلد أسلوب أم كلثوم الغنائي، ولاقت بذلك ترحيباً جماهيرياً، حتى أطلق عليها بعض محبيها وصف "أم كلثوم سورية". وغنّت أيضاً قصيدة "يا جارة الوادي" وغيرها من أعمال محمد عبد الوهاب.

توثقت علاقة مها الجابري بمصر، وزارتها مرات عدة، واشتركت بصوتها في فيلم "لقاء في الغروب"، من إنتاج عام 1960، من بطولة مريم فخر الدين ورشدي أباظة، وإخراج سعد عرفة، فأدت أغنية "ارحمني يا قلبي" من كلمات مأمون الشناوي وألحان بليغ حمدي. ثم توالت الألحان المصرية، مع سيد مكاوي الذي لحن لها قصيدتين من نظم الشاعر السّوري بدوي الجبل، وهما "مواطن النّجوم" و"سقى الله عند اللاذقيّة".

وتعاونت مع محمد الموجي، فوضع لها لحن أغنية "صعبان عليك" من كلمات الشّاعر المصري فوزي المغربي. وغنت "نشيد الجزائر" من ألحان محمد فوزي. وكان عبد العظيم محمد صاحب التعاون المصري الأكبر مع الجابري برصيد ثلاث أغانٍ: "الوحدة" من كلمات محمد حلاوة، عن وحدة سورية ومصر، و"أخدوه وفاتوه" و"من جنتي خدوك" وكلتاهما من كلمات عبد الوهاب محمد.

لم يقتصر تقدير الملحنين لصوت الجابري على السوريين والمصريين. من لبنان، نسج لها توفيق الباشا "عجباً عجبت"، وشفيق أبو شقرا "فرشوا لي الطريق أزهار"، ومصطفى كريديّة "في شرع الله"، وعفيف رضوان "لا نصحني" و"مشيتوا وما طلعتوا".ووضع لها الألحان موسيقيون من العراق والأردن وفلسطين والكويت؛ إذ كانت صوتاً جاذباً للملحنين.

تفاوتت أغاني مها الجابري في درجات الانتشار والنجاح الجماهيري، وبعض أعمالها حقق شهرة واسعة، على الأقل داخل سورية، ومن هذه الأعمال "شو بيصعب عليّ" من كلمات نظمي عبد العزيز وتلحين إبراهيم جودت، وأغنيتها الوطنية "رصوا الصفوف ملايين وألوف" من كلمات فوزي المغربي وألحان شاكر بريخان. وحققت أغنياتها الخفيفة نجاحاً جماهيرياً كبيراً، ومنها "أسمر وخمري" و"حبك في قلبي"، و"طول بالك".

انتمت مها الجابري إلى عائلة حلبية عريقة معروفة بالفن والأدب، ومنخرطة في السياسة والشؤون الدينية، أخرجت الشاعر والسياسي إحسان الجابري، رئيس وزراء سورية بين عامي 1945 و1946، وكان منها عدد من أبرز رجال الدين ومن شغلوا منصب الإفتاء في حلب.

وجدت مها عناية كبيرة قدّمتها إليها أسرتها، التي يسرت لها تعلم العزف على العود، وأتاحت لها التتلمذ على يد شيوخ الفن في المدينة، فحظيت بتربية فنية متينة، قوامها الموشحات والأدوار والغناء الكلاسيكي الطربي، الذي كانت تحرص على العودة إليه، وأداء بعض نفائسه.

ويلحظ من يطالع قائمة تسجيلاتها أنه سجلت عدة موشحات وعدة أدوار، بل مكنها صوتها وأداؤها من مشاركة صباح فخري في وصلة موشحات. ومن أشهر تسجيلاتها للأدوار "يا بديع الحسن" و"ياما أنت واحشني" من ألحان محمد عثمان، وقد غنت الأخير في عدة محافل، ولم تكتف بالتسجيل الإذاعي، وهو ما يعني أن أداءها للدور كان مطلباً جماهيرياً.

ومن أهم ما يلحظه المنصت إلى تسجيلات الجابري، تأثّرها الشديد بأم كلثوم وأساليب أدائها وطريقة إنتاجها للأحرف والكلمات، بل إنتاج الصوت. يرى كثير من المهتمين السوريين أن الجابري مثلت الصوت السوري الأقرب إلى طريقة أم كلثوم، مع إقرارهم بتفاوت مستويات هذه القرب من عمل إلى آخر، ومن حقبة زمنية إلى أخرى.

حتى في أدائها للأغاني ذات الطابع الحداثي، يمكن للمستمع أن يلحظ أثر التأسيسي الحلبي في غناء الجابري، متمثلاً بسلامة مخارج الحروف، وسيطرتها على المقام الموسيقي، وحرصها على ملامسة بعض الجماليات الشائعة في الغناء القديم، وهي تفعل هذا بالقدر الذي يسمح به أسلوب الغناء في التلفزيون أو الإذاعات. لم تطل رحلة مها الجابري، إذ عاشت سنواتها الأخيرة تعاني الإهمال والنسيان، ثم رحلت ولم تجاوز الخمسين. لكنها تركت إرثاً فنياً يخلد اسمها بين مطربات سورية.

المساهمون