منير راضي يرحل ولا صورة له تصلح للنشر

27 سبتمبر 2023
محمود عبد العزيز: "زيارة السيد الرئيس" التي لم تتمّ (جوزيف عيد/فرانس برس)
+ الخط -

 

يُكْتب، بعد وقتٍ قليلٍ على إعلان نبأ وفاته، أنّ ظروفاً مُعاكسةً له تحول دون تمكّنه من تعبيرٍ عن حلمٍ، أو تحقيقٍ لرغبةٍ في اشتغالات سينمائية. يُقال إنّ أيّ إحصاءٍ يُنجَز لمعرفة "أفضل 100 فيلمٍ في تاريخ السينما المصرية" غير مُكتمِل من دون ذكر "أيام الغضب" (1989)، الذي (الفيلم) يُفترض به أنْ يحتلّ مرتبة متقدّمة في ذاك الإحصاء، بحسب رأي نقدي موثوقٌ بمصداقيته. لكنّ "زيارة السيد الرئيس" (1994)، المستند إلى رواية "يحدث في مصر الآن" (1976) ليوسف القعيد، اختبارٌ سينمائيّ أجمل في مقاربة أحوال أفرادٍ، تتنازع في ذواتهم وأهوائهم وأحوالهم ويومياتهم مشاغلَ قهرٍ وانكسار وخيبات. وإذْ ينشغل "أيام الغضب" في أمورٍ كهذه، وإنْ بلغةٍ سردية مختلفة في مستويات عدّة، فإنّ "زيارة السيد الرئيس" يكشف أهوال تربيةٍ وسلوك اجتماعي وعيشٍ، وتعرية علاقةٍ لعلّها مرضيّة بين منكسِرٍ ومتسلِّط.

منير راضي، الراحل في 23 سبتمبر/أيلول 2023 (مواليد 12 أكتوبر/تشرين الأول 1943)، يغوص في قراءاتٍ بصرية لاجتماعٍ، مرتكز على فردٍ وجماعته، ليكشف عبرهما خللاً وارتباكاً وقهراً وخراباً وألماً، وأحلاماً مُجهَضة، أو مؤجّلة. "فيلم هندي" (2003) غير مختلفٍ كثيراً عن ذاك الفضاء البشريّ، المفتوح أمام كاميرا تجهد في تعريةِ مُصابٍ وتمزّق، عبر نصوصٍ تُكتب للسينما مباشرة ("أيام الغضب" و"فيلم هندي")، أو تُستلّ نواتها الدرامية من روايةٍ (زيارة السيد الرئيس). تعاونه مع بشير الديك، في مجالي الاقتباس والتأليف، تأكيد على هاجس التنقيب في شأنِ فردٍ وانفعالاته وتفكيره ومصائبه، وفي الحاصل حوله، أفراداً وجماعاتٍ أيضاً.

مُتعاونٌ مع الديك في فيلمين له من ثلاثة، يُخرجها بعد وقتٍ على اشتغالٍ في مجالات مهنية عدّة سيبقى أبرزها "مساعد مخرج"، يُقابله تعاونٌ مع ممثلين/ممثلات، لبعضهم حضورٌ في أفلام "يُساعد" في إخراجها. اختيار هؤلاء، إنْ يكن منبثقاً من نجومية يحتاج المخرج إليها، أو من نظرةٍ له إزاء أداء/تمثيل وعلاقة ممثل/ممثلة بشخصية/دور، يؤكّد أنّ منير راضي يُدقِّق في فعالية الأداء، من دون تغاضٍ عن "نجومية" تصلح لإبراز الشخصية/الدور جماهيرياً، وللتأثير، قدر المستطاع، في من يختار هذا الفيلم أو ذاك لمشاهدته، بناءً على حضور ممثل/ممثلة.

فراضي يتعاون مع يسرا ونور الشريف ومحمود عبد العزيز ونجاح الموجي وهياتم وأحمد راتب وصلاح عبدالله وأحمد آدم ومنّة شلبي وإلهام شاهين، وغيرهم. تعاونٌ كهذا يشي بدقّة اختيار، متأتٍ من صوابية التوفيق بين حِرفية درامية وبراعة كوميدية، وإنْ تُخفَّف الكوميديا، وتُضبط الدراما لمنعها من السقوط في البكائيات.

 

موقف
التحديثات الحية

 

في "الإنس والجنّ" (1985) لمحمد راضي، مثلاً، يعمل منير راضي "مساعد مخرج". فيلمٌ كهذا يبقى تمريناً للمُساعِد على اكتساب مهارة تقنية بحتة، ولمعاينةِ أداء ممثلين/ممثلات، سيختار يسرا منهم لتأدية دور نسائي أساسي في "أيام الغضب". فيلم محمد راضي عاديّ في اشتغالاته، وبعضها يصبو إلى تفكيك نفسٍ وروح وعلاقة، مستعيناً بمؤثّرات بصرية غير ناضجةٍ كفايةً، لكنّها فاعلةٌ في قولٍ بصريّ عن الحدّ الفاصل بين الواقع/المعرفة/الوعي والهاجس/الجهل/التعلّق بماورائيات وخُرافات. هذا حاصلٌ مع نور الشريف مثلاً، الممثل في "أبناء الصمت" (1974) لمحمد راضي أيضاً، ومنير مساعده.

تعذيبٌ نفسي/جسدي يتعرّض له إبراهيم (الشريف)، في "أيام الغضب"، لأنّ غيابه دافعٌ إلى علاقةٍ بين امرأته صفاء (مروة الخطيب) وعزت (محمد خيري)، اللذين يجهدان في مواجهته، فيحتالان لإدخاله إلى مشفى اضطراباتٍ عقلية. هذا اختزالٌ لنصّ يحاول كشف خفايا نفسٍ وعقلٍ ومشاعر، كالحاصل، وإنْ باختلاف درامي/جمالي، في "زيارة السيد الرئيس"، فالخفايا مبطّنةٌ في أناسٍ، يبدون كأنّهم يتعرّون أمام مرايا أنفسهم، تدريجياً، مع بلوغهم نبأ مرور الرئيس الأميركي في قريتهم. نبأ المرور يفضح مسائل جمّة، منها علاقات الناس، الحاضرة (العلاقات وفضحها) في "فيلم هندي" أيضاً، عبر صديقين يريدان الزواج من حبيبتيهما، قبل انكشاف مستورٍ يفضح ويُعرّي ذاتاً وروحاً وتفكيراً.

يُمكن لناقدٍ أنْ يسترسل في قراءة نقدية لأفلام منير راضي، غداة رحيله. فرغم قلّتها، تمتلك شيئاً مفيداً في تمرينٍ على إعادة مُشاهدةٍ، لكتابةٍ لن تخلو كلّياً من رثاءٍ، مع أنّه يُفترض بالكتابة أنْ تُعنى بالاشتغال السينمائي، أساساً. المأزق كامنٌ في جانبٍ آخر: هل يُمكن نشر مقالةٍ نقدية، رثائية وغير رثائية، إنْ يعجز كاتبها عن العثور على "صورةٍ" تليق بمضمونها، وتُعبِّر عنه، وتكون امتداداً، بصرياً، له؟ صُورٌ معنيةٌ بعربٍ كثيرين غائبةٌ، أو غير صالحةٍ للنشر، وهذه معضلة مهنيّة، يصعب (بل يستحيل، أحياناً) حلّها. فهل يكمن الحلّ في نشر صورة، غير مرتبطةٍ مباشرة بمضمون المقالة، بل بفعلٍ سينمائي يتعلّق بهذا المضمون؟ أيجوز نشر صورة لمحمود عبد العزيز مثلاً، مؤدّي الشخصية الرئيسية في "زيارة السيد الرئيس"، بدلاً من نشر صورة لمخرج الفيلم، منير راضي، وصورة المخرج، إنْ تكن منشورة هنا أو هناك، غير صالحةٍ للنشر؟

هذا ينسحب على منة شلبي أيضاً، وعلى ممثلين/ممثلات، لكلٍّ منهم/منهنّ حضورٌ في نتاجٍ قليلٍ لمخرجٍ راحل.

المساهمون