معرض "غزْل العروق"... جماليات المطرزات الطبيعية والمنكوبة

12 أكتوبر 2022
استعراض لتحول التطريز من ممارسة شخصية إلى أداة سياسية (العربي الجديد)
+ الخط -

امرأتان لا نعرف من هما، ولكن الثوب الفلسطيني المطرّز المتبادل بينهما، ويعود تاريخه إلى الثلاثينيات من القرن العشرين، سيصبح اسمه ثوب النكبة، وستكثّف هذه القطعة فصلاً من فصول المأساة الكبرى عام 1948، ولا تقف عنده. منحت سيدة فلسطينية من رام الله أحد أثوابها للاجئة نجَت مع أهلها من حرب الإبادة، وإذ كانت أطولَ قامة من مواطنتها التي أحسنت إليها، فقد اضطرت إلى تطويل الثوب. وبما أنها مُعدمة، اضطرَّت إلى استخدام أكياس الطحين التي توزعها وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) كي يصبح الثوب على مقاسها.

هذا ما يشرحه لنا مدير المجموعات في المتحف الفلسطيني، بهاء الجعبة، وهو يعبر بنا 8 محطات في أضخم معرض لتاريخ التطريز في فلسطين استضافه غاليري متاحف قطر صباح الثلاثاء، في المبنى رقم 10 في الحيّ الثقافي (كتارا)، ويحمل اسم "غزْل العروق: حياكة تاريخ فلسطين".

أزياء فلسطين الشعبية أداة لاستكشاف التاريخ الاجتماعي الفلسطيني ككل، وما يجسده عمل المرأة تحديداً في التاريخ، وأساس لبحث ارتباط المطرزات الوثيق بالبنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمراحل المختلفة. إنها كما العنوان الموفّق "غزْل العروق"، فالعروق هي الكلمة المتوارثة لوصف شكل الحرير وهو يتثنى على القماشة، في هندسة تشبه عروق الجسد الحي. إذ خرج التطريز بعد النكبة من كونه فعلاً طبيعياً، لقرويّة أو بدويّة فلسطينية، تصرف من عمرها ما بين أربعة إلى ستة أشهر وهي تطرز بالإبرة ثوباً، تبلغ قيمته حد أن يورث لابنة أو كنّة، إلى الفعل الرمزي.

من الذاتية إلى الرمز

حاول المعرض تفكيك رمزية التطريز، وعلاقته بالنوع الاجتماعي والعمل والسلع والطبقات الاجتماعية، وتتبع التحولات التي شهدها الثوب الفلسطيني، ابتداءً بكونه ممارسة ذاتية أساسها الحب، إلى رمز وطني، ثم لاحقاً إلى منتج متداول في الأسواق العالمية.

معرض "غزْل العروق"
يحمل المعرض اسم "غزْل العروق: حياكة تاريخ فلسطين" (العربي الجديد)

يتيح لنا المعرض التعرف إلى هوية الأزياء وقد كانت مشغولة لتحدد وجود المرأة في منطقة معينة عبر موتيفات التطريز، وألوان الخيوط، وتفصيل الثوب، والإضافات التي تشير إلى طبقة المرأة الاجتماعية وكذلك وضعها الاجتماعي. الثوب الذي تظهر على كتفه قطعة صغيرة من قمباز الزوج يعني أن المرأة متزوجة. رمز الديك هو من الميراث المسيحي، إذ كان المسيحيون في حقبة الرومان ممنوعين من إظهار رمز الصليب، والأخير سيتحول إلى دلالة جمالية تطرزه المرأة المسلمة والمسيحية على ثوبيهما.

غابة الأثواب

في محطة أطلق عليها اسم "غابة الأثواب"، تُجمَل فيها كل منجزات الزي النسائي الفلسطيني من شمال البلاد حتى جنوبها، وتزداد كثافة التطريز كلما هبطنا نحو الجنوب. يشير ثوبان يعودان إلى أكثر من قرن وبذات خامة القماش والتطريز إلى امرأتين، واحدة منهما بثوب قدّ حتى منتصفه، وهذه دلالة على فجيعة ألمّت بالمرأة التي تعبّر عنها بتمزيق ثوب طرزته بيدها. كذلك يشير ثوبان آخران إلى امرأتين أرملتين، ثوب غامق الألوان، وآخر أضيف إليه لون فاقع، ما يعني أن صاحبته فكّت الحداد. أما المرأة المُنجبة، فيعبّر عنها ثوب بفتحتين على جانبَي الصدر، بينما يشير ثوب برقعتين من جبهة الركبتين إلى أن صاحبته تعمل في الحقل.

سمتان كبريان

في كل جنبات المعرض تظهر سمتان كُبريان: الأولى تاريخ طبيعي لجزء من بلاد الشام يستورد جلّ أقمشته من دمشق ولا حدود سياسية أمام المؤثرات التي تتداخل بين الجليل والشام أو جنوب فلسطين وسيناء أو على جانبي نهر الأردن، والثانية حين تحوّل التطريز إلى رمز في الصراع مع الكيان الصهيوني.

يحمل اسم "غزْل العروق: حياكة تاريخ فلسطين"
حضور زي المرأة المطرز في الملصق السياسي (العربي الجديد)

فقد تأسست معامل صامد التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية وبدأت تشغّل النساء كجزء من عملها النضالي. وهنا يشير الجعبة إلى تحول نوعي سياسي استخدمته الفلسطينيات في الانتفاضة الأولى عام 1987، فقد كان ممنوعاً رفع العلم الفلسطيني في التظاهرات، فطرزته النساء على أثوابهن، وصولاً حتى إلى الشعارات النضالية، ومنها عبارة "عيدنا يوم عودتنا" تظهر على ثوب، ومعها رموز سياسية ودينية أخرى.

مطرزات الرجال

بما أن التطريز نمط جذري مختص بزي المرأة، وبما أن النوع الاجتماعي أحد انشغالات المعرض، فقد عرض مجموعة من المطرزات أنجزها الرجال ليضيء على تجربة مقاومة الأسرى في سجون الاحتلال. حتى يومنا هذا، ما زال التطريز ينظر إليه باعتباره عملاً لا يمارسه الرجال في فلسطين علناً. إلا أن الأمر يختلف في ما يتعلق بالأسرى من الرجال في السجون الإسرائيلية. ففي تلك الأماكن الأشد ارتباطاً بفكرة الرجولة يعتز الأسرى بما ينتجونه من أعمال مطرزة، وفي الفترات التي تحظر فيها السلطات الإسرائيلية ممارسة الحرف في السجون، يطرز الأسرى سراً وفي ظروف صعبة، لينتج من هذه التركيبة أعمال تدمج معاني الوطنية والمقاومة والصمود بمشاعر التفاني الأسري.

اللوحة والملصق

في المعرض انتباه لافت إلى حضور زي المرأة المطرز في الملصق السياسي واللوحات التشكيلية، وهو حقل واسع عبّرت عنه آلاف الأعمال. فضمن مساعي منظمة التحرير الفلسطينية لإحياء التراث الفلسطيني أداةً للخطاب السياسي، جالت معارض التطريز حول العالم، واستخدمت الأثواب المطرزة زياً لعروض الدبكة، ومثلت عروض التطريز الدولية تلك خلفيات لاجتماعات سياسية رفيعة المستوى، مؤديةً بذلك نوعاً من الدبلوماسية الثقافية.

تحضر في المعرض كذلك بضع لوحات من مجموعات متاحف قطر ومقتنيات خاصة للفنانين إسماعيل شموط وسليمان منصور وإبراهيم غنّام، وفيها امرأة أو نساء بثيابهن المطرزة التي يبذل الفنان جهداً في التعبير الوطني عنها، سواء كان مطرزاً بالريشة كما بدقة الإبرة في لوحتي منصور، أو لونية عريضة مكتفية بدلالتها الشعبية الواضحة كما في لوحتي شموط.

غزل العروق
لوحات عدة تحضر في المعرض (العربي الجديد)

ولدى التعبير النضالي التعبوي يذهب الفنانون إلى الملصق. هذا واحد منها بعنوان "نجوع ولن نركع" صُمم في التسعينيات، و"تحرير، عودة، نصر" لأحمد حجازي صُمم عام 1978، و"سواعد العمّال تحيي الثورة والجماهير" لسليمان منصور، صُمم عام 1980. ولا يخلو ملصق منها من إظهار المرأة بالزي الذي أعادت إنتاجه حركة التحرر جزءاً من هوية الشعب.

ضد الاستشراق

بين هاتين السمتين استعادة لتوثيقات فوتوغرافية بدأت بواكيرها في مطلع القرن الماضي مع جمعيات تمكين المرأة، وفيها تبرز بدايات تحول المطرزات إلى سلع سياحية. وفي مرحلة تشكل الهوية الوطنية الفلسطينية نشأت ظاهرة الصور بالثوب في الاستوديوهات، حيث ترتديه زبونات المحلّ للظفر بصورة معبرة عن اعتزاز بهوية، عكس الصور الاستشراقية التي كانت تظهر في أواخر الحقبة العثمانية وما تلاها من استعمار بريطاني، من ثياب رثة لصاحبات الأرض.

جاء الشتات الفلسطيني بما يفرضه من تحولات موضوعية وذاتية، ليخلق واقعاً اسمه المخيم. هنا لم تعد الجغرافيا -كما يوضح الجعبة- ذات حدود طبيعية، ففي المخيم اختلطت مكونات من مختلف المناطق، وجرى على المطرزات ما جرى على خصوصيات عدة كانت تمتزج في السابق في سياق طبيعي.

السوق التجاري

يتطرق بيان المعرض إلى ارتباط التطريز بالسوق التجاري، من خلال تبادل الأقمشة وإنتاج المنسوجات على أقل تقدير، إلا أنه في تلك المرحلة من التاريخ كان عملاً شخصياً تقوم به النساء ليصنعن ثيابهن الخاصة، وهذا ما تغير بعد النكبة، حين بدأ التطريز يحتكم إلى بنى إنتاج مختلفة. فعلى الرغم من حضور السوق في خلفية ممارسات التطريز قبل النكبة، فإن هذه المرحلة انتزعت النساء الريفيات من حياتهن الزراعية المكتفية ذاتياً وأجبرتهن على البحث عن أعمال ووظائف مأجورة.

تأسست في تلك المرحلة جمعيات خيرية تهدف إلى دعم النساء وعائلاتهن وتأمين الوظائف لهن، ظهرت منها جمعيات مثل إنعاش الأسرة، لتشكل ركائز للمقاومة السياسية، إلا أن هذا كان فقط أحد تداعيات ضم النساء إلى سوق العمل المأجور الذي أدى أيضاً إلى إقحام التطريز في أنساق الإنتاج الرأسمالية التي أصبحت المرأة بمقتضاها عاملةً والتطريز عملاً، وفقاً للبيان.

واليوم، يهيمن انتشار المطرزات الفلسطينية على هيئة سلع تجارية، لكن هذا لم يؤد إلى انقراض الثوب المطرز، بل تطور في البيئات المختلطة لمخيمات اللاجئين والقرى، وبرزت منه أنماط مختلفة أكثر تجانساً تتسم بألوان ونقوش مبتكرة.

المساهمون