يتبدى الغناء لفلسطين عموماً، ولغزة على وجه الخصوص، باعتباره فريضة فنية، يجب أداؤها على كل مطرب، أياً كان موقعه على الخريطة الغنائية، وأياً كان لونه الفني وتوجهه الموسيقي؛ من أصحاب القصائد الكبرى الفصيحة، إلى نجوم الأغنية الشعبية.
لم يستثن مطربو "المهرجانات" أنفسهم من الالتزام بأداء هذا الواجب الفني، فقدموا في حدود إمكاناتهم ما يعبر عن انفعالهم بالأحداث الكبيرة على أرض فلسطين، فأثاروا دهشة قطاعات واسعة من الجماهير العربية، التي لا تحب أن تُغير السرديات المستقرة، ولا الروايات المطمئنة، عن كون الغناء للقضايا الكبرى يمثل موقفاً نبيلاً، لا يليق إلا بكبار أهل الفن، ممن حازوا قدراً معتبراً من التثقيف، الذي مكنهم من انتقاء الكلمة، واختيار اللحن، والأداء الدرامي المعبر، وهو ما لا يمكن تصوره من مطربي "المهرجانات"، الذين ينتمون إلى درجات تعليمية وثقافية متواضعة، ولا يقدمون إلا ما يراه بعضهم "ضجيجاً" ينتشر في أفراح المناطق الشعبية في مصر. لكن أصحاب "المهرجان" أسقطوا تلك النظرية الاستعلائية المنغلقة، وأثبتوا بأعمال عديدة أنهم متفاعلون مع القضية، بدرجة قد تفوق أدعياء الارتقاء الفني.
قبل عامين، وحين تصاعدت أزمة حي "الشيخ جراح" في القدس، عقب محاولات الاحتلال الإسرائيلي تهجير عشرات الأسر العربية من سكان المنطقة، أطلق مطرب المهرجانات المصري، حمو بيكا، مع أصدقائه علي قدورة ونور التوت، عملاً تضامنياً مع أهل "الشيخ جراح" بعنوان "نفديك يا فلسطين". ومع تفجر عملية "طوفان الأقصى"، أعاد بيكا وفريقه نشر "المهرجان" على "يوتيوب" بعد أن أهداه إلى كل أهالي غزة.
يمكن اعتبار أغنية "نفديك يا فلسطين" نموذجاً للطريقة التي يتعامل بها مطربو المهرجانات مع القضايا الكبيرة عموما، وقضية فلسطين بوجه أخص، فالمهرجان التضامني يتناول كل الجوانب "العميقة" التي يتناولها الكتاب والمفكرون والسياسيون حين يتكلمون في الشأن الفلسطيني. لكن "المهرجان يقدم هذه الجوانب بكلمات قريبة من أوساط من لم ينالوا حظاً من التعليم، وبمرادفات وتراكيب يعرفها سكان الأحياء الشعبية الكثيفة والعشوائية.
سيجد من يستمع إلى مهرجان بيكا كل معاني التضامن، وتحية صمود الفلسطينيين، والتأكيد على وحدة الشعوب العربية، والاستعداد لبذل الأرواح من أجل تحرير الأرض، والإشارة إلى جبن المحتل الذي يتجنب المواجهة ويحتمي بالقصف الجوي، وأن الجندي الصهيوني يجري أمام الطفل الفلسطيني.
تقول كلمات المهرجان: "نفديك يا فلسطين.. قلبي ونور العين.. دمك يا شهيد.. مش هيروح بعيد.. جنبكوا تملي.. دا انتوا حته مني.. نبضكم في قلبي.. مش هنبعد عنكوا.. احنا قوة واحدة.. إيد في إيد وساندة.. دولا ناس أونطة.. عايزين ياخدوا أرضكوا.. هنا أرضي هنا وطني.. أنا ادافع عنها بقلبي.. مش هرجع ولا خطوة.. إن شالله يروح فيها دمي.. دم بدم وهنكمل.. مش هنطنش وننمل.. عايزك ثابت تستحمل.. لما تقوم ساعة الهجوم.. واحد منا بألوفاتكوا.. قادر ينسف حياتكوا.. لما يقرب معادكوا.. هتموتوا بالشباشب والشوم.. وقت الجد بنتعامل.. أقوي من النووي الشامل… لو هنموت مش بنجامل.. عادي أنا ميت شهيد.. ده فلسطين بلدي التانية".
لم ينل حمو بيكا أي قدر من التعليم، ولا يستطيع القراءة أو الكتابة، اشترك مع معارف وأصدقاء من حملة الألقاب التي تستغربها الأذن التقليدية المترفعة. كان يغني كلمات "الشاعر الفاجر"، أو ألحان "نور التوت"، ولسنوات كان الموزع هو "فيجو الدخلاوي"، خريج المدارس الفنية الصناعية، الذي ينسب لنفسه نجاح كل المهرجانات التي منحت بيكا شهرته.
أنشأ "فيجو" فرقة "الأحلام الدخلاوية"، وقدم من خلالها مهرجان "أنا فلسطيني"، الذي غناه زيزو النوبي وحمو صبحي، واستهله بكلمات تقول: "قوالب طوب بها بنغلب مدافع.. ده صاحب حق لراية أرضه رافع.. ده رب الكون شايفكم أيوه سامع.. أنا فلسطيني وحقي مسيره راجع.. شجر زيتونا أكبر من كيانك.. ده أصغر راجل في أرضنا يا ابني هانك.. ما تستعجلش هيجي عليك زمانك.. هتداري يدل عليك مكانك.. فرحه طايره وعلى الحدود.. من الدخيله طالعه لعبود فلسطين أرض الأسود.. راسنا مرفوعه في العلالي". لكن بقية كلمات المهرجان سارت في طريق لا صلة له بفلسطين وقضاياها.. لا يحتاج مطربو المهرجان إلى تبرير.
"قلبي بيتقطع على فلسطين"، أغنية أطلقها مطرب المهرجانات محمد عزب، الشهير بـ"أبو الشوق زعيم ميكانيكا الفن"، تضامناً مع أهالي غزة، من كلمات محمد الشاعر، وتوزيع إسلام كريزي. نالت الأغنية تفاعلا كبيرا وتشجيعا من مختلف البلدان العربية، ربما بسبب كلماتها المؤثرة، التي جاء فيها: "أطفالنا ماتت.. شعوب اتبادت.. في كل لحظة فيه شهيد.. والكل ساكت.. بيوت تتفجر.. والناس تتهجر.. يا رب نصرك.. عن قريب غزة تتحرر.. يا رب نصرك.. حرر الأقصى.. جوايا حزن كبير قوي.. جوايا غصة.. يا رب ساندهم.. واقبل شهيدهم...". لا تقبل النظرة الاعتيادية أن يصدر هذا الانفعال العميق بالأحداث عن مغني مهرجانات يلقب نفسه بزعيم ميكانيكا الفن.
كان إسلام كريزي موزعاً في "قلبي بيتقطع"، لكنه جاء ملحنا مشتركا مع "ميجو ميكس" لمهرجان "قصة فلسطين" الذي غناه جودة منعم، بعد أن اشترك في كتابته مع سيد الجبالي، تضامنا مع قطاع غزة عقب عملية "طوفان الأقصى"، يتساءل فيها عن أصل الصراع، ومن الذي بدأ بسرقة الأرض، ومحاولات تشويه المقاومة. كما يشير إلى قتل الأطفال، وأن الدم سيواجه بالدم، وأن تضامن المصريين مع القضية تفرضه الاعتبارات الدينية الدنيوية.
تقول كلمات المهرجان: "اللي بيحصل ده سبب مين؟.. طيب مين سارق من مين؟ أصحاب الحق لما انتفضوا.. قالوا عليهم ناس وحشين.. أطفال في غزة بتضرب.. شهداء كتير تحت التراب.. والدم بقا مالي المكان.. رد الغلط هيكون غضب .. دم بدم يا فلسطين.. احنا معاكي دنيا ودين.. من ولادك المصريين.. اللي عشانك هيضحوا".
من اللافت أن استشهاد الأطفال بهذا العدد الكبير خلال القصف الإسرائيلي على قطاع غزة، كان له أكبر الأثر في انفعال مطربو المهرجانات ودفعهم إلى المشاركة الفنية التضامنية: "ماتوا كتير أطفال.. واتدمروا بيوتهم.. قبل الرحيل ع الدار.. كتبوا وصيتهم.. بدل الأمان والدار.. موتهم محاوطتهم.. وبدل لعب يا ناس.. قتلوا طفولتهم". كذلك، استهل مودي أمين مهرجانه التضامني مع أطفال غزة، من كلمات أحمد حمتوا، وألحان بودة برودكشن. مشاهد الأطفال تحت الأنقاض، كانت عاملا مشتركا في تفجير ثورة الغضب والحزن بين مطربي المهرجان.
لكن كان للمطرب أمير قاسم، إسهام متميز، إذ قدم ما يمكن اعتباره مهرجانا دراميا، يحكي فيه قصة يهودي جاء إلى فلسطيني طالباً الضيافة لسويعات قليلة، فرحب به الأخير وأكرمه، لكن زيارة اليهودي استمرت عامين، ثم رفض المغادرة زاعما امتلاكه للمكان والأرض، متوعداً الفلسطيني بالتهجير تحت تهديد السلاح.. كلمات المهرجان كتبها محمد النجار.
وتقول: "مسا بالخير.. أخوكو كوهين.. ممكن أقعد عندكو ساعتين.. أو بالمعنى أبات لي يومين.. ده أنا تايه في بلاد الله.. خديني في أرضك يا فلسطين.. إيه يا حبيبي مش ناوي تمشي؟ لا يا حبيبي الأرض بتاعتي، وأنا بسلاحي هخليك تمشي". ويتصاعد الحوار بين اليهودي المحتل والفلسطيني صاحب الأرض الذي يتوعد سارق أرضه قائلا: "أصغر عيل فينا مناضل.. الراجل بيخلف راجل.. شجر الزيتون.. دم شبابنا اللي بيرويه.. والقدس العربية.. مش هنفرط أبدا فيه".
أدى إذن مطربو المهرجانات الواجب الفني تجاه قضية فلسطين والحرب على غزة، وعبروا بكلماتهم البسيطة عن مواقف مركبة، يقدمها الكتاب مصحوبة بتنظير وتعقيد لا يلائم الطبقات الشعبية التي يخاطبها مطربو المهرجانات، فالغناء لم يخرج يوما عن قاعدة "كل ميسر لما خلق له".