شكّل إعلان في إحدى الصحف التونسية صدمة في الوسط الإعلامي المحلي، إذ تضمّن محضراً لمزاد علني يهدف إلى بيع أثاث ومواد مكتبية وحواسيب بث تابعة لإذاعة "كاب أف أم" لصالح دائنيها من صحافيين وتقنيين. وما زاد من وقع الصدمة هو تخوف مئات الصحافيين من مصير مشابه للمؤسسات التي يعملون فيها، في ظل تفاقم الأزمة المالية والاقتصادية في البلاد.
وبالعودة إلى المشهد الإذاعي فى تونس، لعلّه من المفيد عرض توزع خريطة المؤسسات لمحاولة فهم أساس الأزمة.
تعمل في تونس حالياً 51 محطة إذاعية موزعة على الشكل التالي: 12 إذاعة رسمية حكومية، و17 إذاعة خاصة (مملوكة بالكامل للقطاع الخاص)، و22 إذاعة جمعياتية، أي تملكها جمعيات من المجتمع المدني.
ومقابل هذا العدد الكبير للمحطات الإذاعية، فإن سوق الإعلانات لا يتجاوز سنوياً 40 مليون دينار (حوالي 13 مليون دولار). وإذ ما استثنينا الإذاعات الرسمية التي تتلقى تمويلها ورواتب موظفيها من القطاع العام أي الحكومة التونسية، فإن باقي المحطات تعتمد بشكل شبه كلي على عائدات الإعلانات التجارية، علماً أنّ إذاعة موزاييك أف أم تسيطر على 50 في المائة من هذه الإعلانات، تليها إذاعات "إي أف أم"، و"الجوهرة أف أم"، و"ديوان أف أم". أما باقي الإذاعات التي يتجاوز عددها 34 محطة فتتقاسم مبلغاً زهيداً من العائدات المالية للإعلانات التجارية، وبالتالي تبقى عاجزة عن ضمان توازناتها المالية.
اختلال التوازن المالي في هذا العدد الكبير من الإذاعات التونسية الخاصة والجمعياتية جعلها تسقط فى بؤرة الأزمة المالية الخانقة، وهو ما كان له انعكاسٌ سلبيٌ على إنتاجها للمحتوى الإعلامي. هكذا بات بعضها يكتفي ببث الأغاني وبعض التسجيلات القديمة بشكل متواصل تفادياً لتوظيف عدد من الصحافيين والتقنيين، وبعضها الآخر بات ينتج مضامين إعلامية بشروط معينة، ومنها أنه على كل صحافي أو إذاعي أن يؤمّن راعياً لبرنامجه ليتمكّن من تقديمه على أثير الإذاعة، على أن يتقاسم العائدات مع المحطة. أما قسم ثالث من الإذاعات فاستسلم أمام العجز المالي وتوقف عن دفع رواتب العاملين.
أمام هذه الأزمة الخانقة اضطرت بعض المؤسسات إلى الإغلاق وسُحبت إجازة بثها من قبل الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري (الهايكا)، مثل إذاعتي "نجمة أف أم"، و"ريحانة أف أم"، في حين ما زالت بعض الإذاعات الأخرى تقاوم أملاً في تدخل الحكومة التونسية لإنقاذها من خلال تخفيض رسوم البث وجدولة ديونها لدى الديوان الوطني للإرسال الإذاعي والتلفزي، وهي المؤسسة الرسمية المكلفة بإدارة ملف البث ومنح الذبذبات، وإلغاء ديونها لدى الصناديق الاجتماعية حتى تتمكن من مواصلة عملها.
الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري من ناحيتها طالبت منذ حزيران/ يونيو 2022 الحكومة التونسية بإطلاق صندوق دعم الإنتاج السمعي البصري بهدف مساعدة الإذاعات التى تعيش أزمة مالية وتحفيزها على مواصلة عملها الإعلامي. إلا أن الحكومة التونسية لم تستجب بعد لهذا الطلب، رغم أنه يوجد صندوق لدعم السينما مشابه لما طالبت به "الهايكا". لكنّ المختصين فى الشأن الإعلامي فى تونس يرون أن الحكومة التونسية لا تعتبر الإعلام من الأولويات لديها فى ظل الأزمة المالية التى تتخبط فيها هي الأخرى.
ويبقى الخطر الأكبر، وفق المتابعين، هو أن يتم استغلال الأزمة المالية التى تعيشها المحطات الإذاعية للسيطرة على خطها التحريري من قبل النظام التونسي أو حتى من قبل رؤوس أموال قريبة منه أو ذات أهداف سياسية، وهو ما تؤكد النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين على رفضه وعلى إصرارها على مجابهته مهما كلفها الأمر.