مصوّرو فلسطين: البلاد منذ فجرها في لحظات

26 أكتوبر 2023
من العدوان المستمر على غزة (محمود الهمص/ فرانس برس)
+ الخط -

منذ بداية عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الحالي، رد العدو الإسرائيلي بحرب شعواء ضد قطاع غزة. عناوين يومية تُصدرها الصحف والمنصات الإعلامية لتحليل ومتابعة صورة العدوان على غزة، تكاتفت بخِّسة منصات تزييف الوعي مع جهاز الهاسبرا (المكتب الإعلامي الحكومي في إسرائيل) على حظر صورة الفلسطينيين ودعم صورة السردية الصهيونية، لتتولى وحدها سرد الحقيقة.
حرب الصورة بدأت مع نكبة فلسطين كجزء من الحملة الممنهجة للسطو على ثقافة الشعب الفلسطيني ومكانه. حينها، صدَّرت وكالة أونروا، بدعم أوروبي، صورة الفلسطيني كلاجئ في المخيمات ومعه الأرض الفلسطينية الخالية من السكان. اقتطعت هذه الجزئية من تاريخ فلسطين المستمر وتصدرت وحدها المعارض والمؤتمرات العالمية، في محاولة لتحويل المكان إلى اللامكان.
فَرَضت المقاومة الفلسطينية معادلة جديدة على العالم أجمع، وإذا كانت عودة الصورة مقدمة لعودة الجغرافيا؛ فالحرب الإعلامية/الصوريَّة هي من شروط هذه المعادلة والأرشيف الفوتوغرافي لفلسطين هو فعل وأداة للمقاومة.
"مصوّرو فلسطين" سلسلة وثائقية، من إنتاج الجزيرة الوثائقية صدرت عام 2021، إخراج الفلسطينية مروة جبارة الطيبي. السلسلة عرضٌ لذاكرة بصرية كثيفة، تناولت عبر حلقاتها الستة تاريخ الصورة -كتكثيف للشعور الذي مر وما يزال- في فلسطين بعيون المصورين الفلسطينيين الأوائل.
تبدأ السلسلة بأرشيف ابن مدينة الناصرة فضيل ناصر سابا (1901 - 1988) الذي بدأ بتصوير جمال مدينته منذ عام 1918، واستمر بتطوير مشروعه الفني حتى عمل كرئيس للمصورين في البعثات الأثرية في الوطن العربي، وبمشروعه الشخصيّ وثق الحياة اليومية لأهل مدينته بتفاصيلها كافة.
تكمن أهمية مشروع سابا كمصور بألبوم اللقطات المأخوذة لعين العذراء المقدسة، تلك العين العذبة كانت تَسقي الأهالي والسياح والتجار مع قوافلهم، وكانت ملتقى أهل البلدة، شاهدة على ملابس وأدوات ذاك الزمن. الثوار مروا عليها أيضاً وجيوش كثيرة شربت منها، ودائما ما كانت كاميرة سابا حاضرة.
ناصر سابا، والد فضيل، كان مصوراً أيضاً، أقل احترافاً من ابنه، لكنه استحق لقب شيخ المصورين الفوتوغرافيين. لسابا الأب أو الابن -لا نعلم- صورة لجبل الطابور، تلك الصورة هي دليل حي بأن ذاك الجبل، كفلسطين التاريخية، لن يستطيع أن يجرها أحد.
يعود الفضل الأكبر لخليل رعد (1854 - 1957)، عميد الفوتوغرافيين الفلسطينيين، بتوثيق الفترة العثمانية، وبعدها الانتداب البريطاني، ذلك عبر تصويره لعائلات القدس والبلدات المحيطة. درس رعد في سويسرا، وافتتح ثاني استوديو في فلسطين، بدأ بتلوين الصور يدوياً، فتحول بذلك لحِّرفي، اعتُمد رعد كمصور رسمي للحكومات المتعاقبة (وجد بعضٌ من صوره في جامعة أكسفورد)، واشتُهر ببورتريه لجمال باشا في مكتبه في جبل الزيتون.
داعب رعد الصورة الاستشراقية للسوق الأجنبي بتصويره تمثيلية لقصة العائلة المقدسة، وطبع منها بطاقات تذكارية للبيع، تحولت بعد عقود إلى وثائق نادرة يبحث عنها الجامعون. تعامل رعد عبر كاميرته مع شجرة البرتقال كمنتج فلسطيني صناعي قابل للتصدير، فتحولت شجرة البرتقال إلى أيقونة مدينية، مقابل صورة شجرة الزيتون كأيقونة ريفية.
"مصورة شمس وطنية"، هكذا كانت كريمة عبود (1896 - 1940) تُعنون صورها في الجرائد، ولدت في بيت لحم، والتقطت الواقع اليومي المعيش للمرأة الفلسطينية، لكونها امرأة كانت قادرة على دخول منازل الطبقة الوسطى في فلسطين وتصوير يومياتها، فتركت لنا إرثاً حياً لا مثيل له لتلك الطبقة في ذاك الزمن.
طورت كريمة أدواتها، وصنعت بطاقات بريدية بهدف بيعها. كان لعبّود حرية لا نملكها اليوم، هي امرأة مُصورة تقود سيارتها في عام 1922، وتتنقل من مكان إلى آخر بكل حرية. لكريمة مشروع ثوري وطني تواجه به الصور التي تصدرها منظمة أونروا، ومن خلفها التصوير الفوتوغرافي الكولونيالي القائم على فكرة المحو، كانت تتقصد نشر صور مليئة بالناس وبجمالياتهم وتفاصيلهم.
حققت كريمة عبّود المجموعة الكبرى على نطاق مصور واحد، وأثبتت أن لكل صورة شمسها الخاصة. في عام 1948، واستكمالاً للسطو الثقافي الصهيوني، دمّر الاحتلال استوديو كريمة وصودرت صورها ودخلت أقبية أرشيف إسرائيل، ولم نستعد حتى الآن سوى القليل منه.
مشروع كيغام جغليان (مواليد عام 1915) له الأهمية القصوى اليوم بين المشاريع جميعها. المصور ذو الأصول الأرمنية انتقل إلى غزة، وعمل بالتصوير الفوتوغرافي. وثق كيغام غزة من وجهة نظر فلسطينية، بعيدة كل البعد عن صورة المستعمر النمطية، واستحق بالفعل لقب الأب الروحي للصورة. صوَّر العائلات الكبرى في المدينة، والتقط بعدسته الشرايين التي توصل غزة بالعالم كالمطار وسكة القطار، وترك لنا صوراً لمعالم لم تعد موجودة، كضريح الجندي المجهول ومبنى السرايا وقصر الحاكم المصري.
تكمن أهمية مشروع كيغام بتوثيقه لتاريخ غزة السياسي، إذ كان حاضراً لحظة وصول اللاجئين إلى غزة عام 1948، ووثق مجازر خانيونس عام 1956. التقط صوراً لمحمد نجيب، أول رئيس مصري، ولأنور السادات والملك فاروق وجمال عبد الناصر، ورئيس الوزراء الهندي لال نهرو، ولتشي غيفارا.
حتى المناحي الثقافية في الحياة اليومية لغزة، كانت حاضرة في ألبوماته؛ إذ وجدت صور لجان بول سارتر في أرشيف كيغام وصور لصباح وعبد الحليم حافظ ومحمد عبد المطلب وشادية ونجاة.

التقط صوراً لانسحاب الجيش الإسرائيلي من غزة عام 1956، وهي الصور الوحيدة التي وثَّقت لتلك اللحظة التاريخية. في مرحلة لاحقة، بدأ عمله كمصور رسمي لمنظمة التحرير الفلسطينية منذ لحظة تأسيسها بقيادة أحمد الشقيري. تثبت كاميرا كيغام أن للمنظمة جيشاً متكامل العدة والعديد، ولن تهزمه سوى الخيانات السياسية.
خلال العرض، يروي الفلسطيني مروان ترزي قصة أخيه تلميذ كيغام. يُحافظ ترزي على أرشيف كيغام ومن أتوا من بعده، ويُلقَّب بـ"حارس تاريخ غزة البصري". استشهد ترزي برفقة زوجته وعدد من أفراد أسرته في القصف الإسرائيلي على كنيسة بورفيريوس للروم الأرثوذكس في غزة قبل أيام، لتمتزج في تلك اللحظة صورة المجزرة مع أرشيف كيغام وحارسه داخل التاريخ الفلسطيني.
يتعامل العرض مع الصحافيين الفلسطينيين الأوائل، كأسامة السلوادي والشهيد مازن دعنا ونائل الشيوخي، وغيرهم كتجربة تصوير غير منقطعة عن تاريخها، إذ تابع الصحافيون الشجعان، كلٌ من موقعه، تجديد ملمح التدمير المستمر، ووثقوه بصرياً بكاميرات الوكالات الصحافية. لأسامة السلوادي صورة أيقونية التقطها عام 1995 في نابلس وسط البلد؛ "الجندي الذي يمسك شاباً في يده حجر". الصورة تحولت عنواناً لتلك المرحلة.

يتعمد جيش الاحتلال قتل الصحافيين باعتبارهم عين العالم على جرائمه، وقتله لأكثر من عشرين صحافياً خلال عدوانه الأخير على غزة ليس جديداً، بل استمرار لتاريخ ممتد منذ النكبة، يتعمد فيه استهداف "الجندي الإعلامي" أو "المواطن الصحافي". كل المصورين، من خليل رعد ومنصور سابا، وصولاً إلى الصحفية بليستا العقاد، يساهمون في تثبيت وتوثيق ذاكرة فلسطين العربية، وعلينا أن ننظر بتمعّن شديد في هذا التاريخ الفوتوغرافي.

المساهمون