مصارعة الثيران: جدل الهوية الوطنية وحقوق الحيوان

مصارعة الثيران: جدل الهوية الوطنية وحقوق الحيوان

07 ديسمبر 2022
مصارعة الثيران تُحقّق أرباحاً اقتصادية تصل لحدود أربعين مليون دولار (دافيد راموس/ Getty)
+ الخط -

معروفة هي قصص الشغف والإعجاب الشديدين بمهرجانات أو عروض مصارعة الثيران. تطول لائحة الكتّاب والرسامين والشعراء وكذلك السينمائيين، الذين اهتموا طويلاً بالمسألة، لدرجة تحوّلت مشاهد الصراع الدموي بين الثور والإنسان إلى "ثيمة" شهيرة في الأعمال الفنية.
شغف الكاتب الأميركي إرنست همنغواي بهذه المصارعة، ظهر واضحاً في العديد من كتبه وأعماله الصحافية، تماماً كما انعكس هذا الشغف في أعمال الرسام والنحات الإسباني بابلو بيكاسو، الذي أنجز سلسلة من اللوحات التي صوّرت مشاهد هذا الصراع بين الإنسان والحيوان. كما نجد مصارعة الثيران، في أشعار نزار قباني، على سبيل المثال: "ويندفع الثور نحو الرداء قوياً، عنيداً ويسقط في ساحة الملعب... كأي شهيدٍ... كأي نبي... ولا يتخلى عن الكبرياء...".
لم يتمكّن المؤرخون من تحديد الأصول الحقيقية لمصارعة الثيران. من السهل ربطها بإسبانيا، لأسباب كثيرة وخاصة لانتشارها، ولكن حسب المؤرخين فهي مزيج من طقوس وثقافات عمرها آلاف السنين. لكن هذا "العرض" الذي يحشد الكثير من المعجبين حوله، كان على مدار السنين موضوع جدل ونقاشات عميقة. هل هذه الدمويّة فيها من الجماليّة ما يكفي لغضّ الطرف عن تعذيب وقتل الحيوانات؟ وهل متعة الإنسان تتفوّق على كل ما عداها من كائنات على الأرض؟
مصارعة الثيران، التي من المُمكن إلحاقها بكلمة رياضة، مبارزة، استعراض، أو حتى احتفال، يُفضّل كثيرون اعتبارها فنّاً. هذا الصراع بين محورين (مؤيدين ومعارضين) يمتدّ إلى مئات السنين. في اللغة الإسبانية، هي مصارعة الثيران أو مهرجان الشجعان. أمّا المعنيان بكلمة الشجعان، فهما الحيوان والإنسان اللذان يتواجهان وصولاً إلى أن يقتل أحدهما الآخر. الحادثة الأخيرة وقعت عام 2016، عندما لقي المصارع فيكتور باريو (29 عاماً، إسباني الأصل) حتفه في ساحة المعركة أمام آلاف المشاهدين. بينما اعتاد الجميع على موت الثور، وهي الحتميّة المرجوّة في كل مرة تحصل فيها المواجهة.
في الأسابيع الماضية، شهدت فرنسا نقاشاً حادّاً حول الموضوع. مصارعة الثيران، أو "لا كوريدا" بالفرنسية، موضوع حاضر منذ سنوات في الإعلام الفرنسي، ولا سيما أنّ العديد من المناطق الفرنسية ما زالت مُحافظة على هذا التقليد. لكنّ تقدّم أحد النواب بمشروع قانون يهدف إلى تجريمها ومنعها، استدعى استنفاراً من كلّ الاتجاهات. من وسائل التواصل الاجتماعي، إلى اختصاصيين في العلوم الاجتماعية وفلاسفة ونواب وممثلين محليين. كلٌّ له رأيه وتحليله.
في هذا الوقت، حرّك مشروع القانون الشارع أيضاً، حيث شهدت بعض المناطق تنظيماً لتظاهرات داعمة لإقرار قانون يمنع الكوريدا، وأخرى رافضة بشكل حاسم لأي مسّ بالثقافة المحلية. مدينة "نيم" (جنوب فرنسا)، مثلاً، استقبلت في الصباح متظاهرين رافضين مشروع القانون، بينما احتلّ شوارعها، في فترة ما بعد الظهر، متظاهرون مؤيدون للكوريدا.
وكما كان متوقّعاً، لم يتمكّن مشروع القانون من إكمال طريقه في الجمعية الوطنية الفرنسية. النائب البرلماني، إيميريك كارون (المنتمي إلى حزب "فرنسا الأبية" (يسار) بزعامة جان لوك ميلانشون)، اضطرّ إلى سحب مشروع القانون الذي سبق وتقدّم به. حصل هذا، بعد أن قدّم نواب مناهضون لمشروع القانون، 638 طلب تعديل على المسودة. تعديلات وصفتها النائبة عن حزب الخضر الفرنسي، ماري شارلوت غاري، بالتعديلات الكاريكاتورية والسيئة النيّة.
تعديلات حاولت الصحافة الفرنسية استعراضها، واضطرّت لكثرتها ولهزليّتها اختيار أكثرها غرابة. على سبيل المثال، تمثّل اعتراض أحد النواب على الجزء الثاني من عنوان مشروع القانون "إلغاء مصارعة الثيران: خطوة صغيرة للحيوان... قفزة كبيرة للإنسانية". لهذا طالب باستبدال العبارة بأخرى، هي "إلغاء مصارعة الثيران: فرض نمط حياة باريسي". بينما طلب آخر من اليمين المتطرّف، استبدالها بعبارة "فرض أيديولوجيا آكلي البذور على سكان جنوب فرنسا".

سوشيال ميديا
التحديثات الحية

هذا التعطيل الذي حاصر مشروع القانون داخل أروقة الجمعية الوطنية، امتدّ إلى خارجه. ما حصل بين النواب، انعكاسٌ لصراع جدي بين من يعتبرون مصارعة الثيران جزءاً من الهوية والثقافة المحلية، وآخرون يرون في الأمر مسرحية دموية لا تهدف إلا إلى تعذيب وقتل الحيوان من أجل متعة الإنسان. ولكن ماذا تقول الأرقام عن انتشار "ثقافة" مصارعة الثيران في فرنسا؟ يجري سنويّاً تنظيم حوالي 200 مسابقة في المناطق التي ما زالت تسمح لحلبات مصارعة الثيران باستكمال عملها، وهي تتركّز في الجنوب الفرنسي. مشروع القانون كان يهدف إلى منعها بشكل كامل وحاسم في جميع المناطق الفرنسية. في مقاطعة "لاند" الفرنسية، وهي أكثر المناطق التي تضمّ حلبات مصارعة، يموت فيها سنويّاً حوالي الألف ثور، من دون احتساب الثيران التي تقضي خلال فترة التدريبات في حلبات خاصة ومُغلقة. ومن الجدير بالذكر، أن مصارعة الثيران تُحقّق أرباحاً اقتصادية، تصل لحدود أربعين مليون دولار، حسب بعض المصادر الصحافية.

فرنسا هي واحدة من ثمانية دول حول العالم، ما زالت مُحافظة على مصارعة الثيران. إسبانيا، والبرتغال، والمكسيك وكولومبيا، هي دولٌ ما زالت فيها حلبات مصارعة الثيران تضجّ بأصوات المشجعين، في كل مرة يغرس فيها المُصارع سهامه في جسد غريمه: الثور.

المساهمون