مشاهير مزيَّفون: أن تشتري لنفسك جمهوراً وتبيعه

10 مارس 2021
يفبرك كثيرون حتى أماكن وجودهم ليخدعوا المتابعين (HBO)
+ الخط -

بثت شبكة HBO، أخيراً، وثائقيّاً يحمل عنوان "مشاهير مزيفون" Fake famous، من كتابة وإخراج وتعليق الصحافي المتخصص بوسائل التواصل الاجتماعي، نيك بيلتون. يجري هذا الأخير ما يسمّيه "تجربة اجتماعيّة"؛ إذ تم اختيار ثلاثة أشخاص (شابين وفتاة) عاديين، نَشطِين على إنستغرام، ومن دون أي موهبة، وذلك لمحاولة جعلهم مشاهير ومؤثرين على تطبيق إنستغرام.

الهدف من هذه التجربة هو المحاولة للإجابة عن السؤال الآتي: هل فعلاً سيعيشون نمط الحياة الذي يظهر في الصور الباذخة للمؤثرين المشاهير؟ أم هناك جانب مظلم للأمر؟ يبدأ بيلتون، فيلمه بطيء الإيقاع، بالحديث عن ثقافة المؤثرين، منطلقاً من لوس أنجليس، حيث الجميع يسعى إلى أن يكون مشهوراً ومؤثراً، ويدعونا إلى "معرفته" وتقدير "فردانيته"، من دون امتلاك أي موهبة أو مهارة، بل الإغراق في الاستعراض والزيف حد الاغتراب، وتحويل المدينة نفسها إلى منصة لالتقاط الصور، لا اختبار المدينة وتعقيداتها وأنشطتها المتنوعة. تنتهي عملية اختيار من ستقع عليهم التجربة، بثلاثة أشخاص عاديين بوظائف شديدة التقليدية (مساعد وكيل عقارات، وعاملة في محل ثياب، ومصمم أزياء هاو). ولكل واحد منهم شخصية مختلفة عن الآخر، لكن هدفهم واحد، أن يصبحوا مشاهير ويكسبوا الملايين.

الفرضية الأولى، أي أن يصبحوا مشاهير، تبدو بسيطة، وتعمي المشاركين، ومعادلتها تقليديّة نوعاً ما: ادّعِ بأنك شهير ذو صور جميلة، فيتحول الأمر إلى حقيقة؛ إذ نشاهد كيف تُلتقط الصور ويتم "تلفيقها" والكذب حول أماكن التقاطها، سواء كنا نتحدث عن فنادق ضخمة وفخمة، أو طائرات خاصة التي بعد نشرها نكتشف أنها لا تجذب "المعجبين". وهنا الخطوة الثانية: شراء الإعجابات؛ إذ يعرفنا بيلتون على عدد من المواقع التجارية التي يمكن عبرها شراء "اللايكات" و"التعليقات" بصورة يومية. الأمر مكلف، لكن نتيجته مضمونة. حسابات المشاركين الثلاثة كانت تحوي بضعة آلاف من المتابعين، لكن وأحياناً بلحظات، أصبحت تحوي ما يزيد عن نصف مليون متابع.

لن نخوض في المفارقات بين "الواقع" و"الصورة المزيفة"، تلك التي يكشفها الوثائقي، ويثير قشعريرتنا في بعض الأحيان، خصوصاً في ما يتعلق بالهوس بالشهرة والاستعداد لـ"أي شيء" في سبيلها. لكن المثير للاهتمام هو نتيجة التجربة، وردود أفعال المشاركين بها تجاه ما يحصل، خصوصاً أن الحسابات الوهمية ازداد عددها ودورها، وعلى بيلتون أن يدفع بصورة يوميّة، لكن المفاجأة أن ويلي هاينر، مساعد وكيل العقارات، تعرض إلى التنمر، أو بصورة أدق، أرسل له أحدهم رسالة ينعته فيها بالمزيف والكاذب، وأن كل الإعجابات والتعليقات على صوره ليست إلا نتاج حسابات وهميّة وهدده بأنه سيفضحه، ما تسبب لـ هاينز بصدمة، واعتراه خوف امتد لأشهر منعه من نشر أي صورة.

أما كريس بيلي، مصمم وكاتب الأغاني الهاوي، فكان رد فعله مدهشاً؛ إذ قام بحذف كل التعليقات الزائفة من على صوره، ورفض شروط التجربة، قائلاً إنه يريد أن يكون مشهوراً بسبب فردانيته، وإيمانه العميق بضرورة أن يتعرف الناس على حياته حقيقةً، وليس عبر الحسابات الوهميّة. "الناجح" في التجربة، إن صح التعبير، هي دومينيك دروكمان، التي أصبحت فعلاً مؤثرةً وبدأت تتلقى الدعوات إلى فنادق فخمة، وتقوم بجولات ترويج إعلانية، وكأنها "تعيش الحلم"، لكن ما حصل أن فيروس كورونا أوقف كل شيء، واكتشفت دومينيك زيف ما يحصل، لكن ما يقوله بيلتون، إن كثيراً من أولئك المزيفين، ما زالت حياتهم مستمرة.

هذا الزيف وظفه مرشحو الانتخابات الأميركية لجمع الأصوات، واستفاد منه المشاهير، كـ كيم كارداشيان، لتكديس الأموال مقابل صورة واحدة، لكن الجميع يغض الطرف عن هذا الزيف

وبالرغم من الإغلاق العام، نرى صورهم منتشرة في الأماكن الفخمة الخالية. الأهم، أن هذا الزيف وظفه مرشحو الانتخابات الأميركية لجمع الأصوات، واستفاد منه المشاهير، كـ كيم كارداشيان، لتكديس الأموال مقابل صورة واحدة، لكن الجميع يغض الطرف عن هذا الزيف، فهناك الكثير من الأموال التي يتم تداولها عبر ملايين الحسابات المزيفة، والبضائع الترويجية، وتحوّل الأمر إلى شكل اقتصادي قائم على الوهم و"لعب الدور"، أكثر من كونه تعبيراً عن الذات.

كشفت الجائحة، برأي بيلتون، الحقيقة، بل إن دومينك نفسها اكتشفت زيف حياتها، وصفعتها الحقيقة حين قام أولئك المؤثرون الحقيقيون، من رياضيين وممثلين وموسيقيين، بمشاركة تجاربهم وما يجيدونه مع الناس في سبيل التضامن، بعكس ما كانت تقوم به دومينيك، وهو "خداع" المتابعين من أجل الترويج للمنتجات المختلفة. وصف البعض الوثائقي بأنه متعال ولا يفهم حقيقة المؤثرين، بل يسخر منهم ومن أثرهم، خصوصاً أن هذه الصناعة تغلب عليها "النساء" وهن الأكثر ربحاً منها، ما جعل بيلتون يبدو كـ"الرجل" الذي يسخر من النساء، ومن صورهن التي استخدمها من دون علمهن. الأهم، يدّعي بيلتون أن المؤثرين هم فقط الرياضيون والممثلون وغيرهم من النجوم الذين لا ينتمون إلى وسائل التواصل الاجتماعي، مستثنياً بذلك فئة كبيرة من الأشخاص الذي ساهموا بجعل العالم مكاناً أفضل.

صحيح أن الوثائقي يركز على شكل واحد من المؤثرين، لكن حقيقة ما يثير الدهشة في الفيلم هو الهوس بالشهرة، والأهم، الهوس بالفردانيةّ، وأن هناك ما يثير الاهتمام في حياة أي شخص، الذي بمجرد وصوله إلى العلن، أو إلى عدد محدد من المتابعين، يتصرف كما لو أنه أنجز شيئاً، وهذا ما لا يشير إليه الفيلم ولا منتقدوه.

الهوس بالفرادة يتركنا أمام الكثير من النماذج مسموعة الصوت، لكنها حقيقة منفصلة كلياً عن الواقع، مهما كان هذا الواقع قاسياً، عالم الزيف الذي يراهن على الفردانية والأداء الذاتي شديد الخطورة، كونه يؤجل "الآن" على حساب الصورة والانطباعات والمتخيلات التي تعطيها الصور، وهذا ما نلاحظه بوضوح لدى كريس بيلي، الذي رفض التجربة، لقناعته التامة بأن حياته تستحق أن تتشارك مع الجميع، بالرغم من أنه لا يقوم بما هو مميز أو يثير الاهتمام، هذا الهوس بالأنا وشكلها بوصفها إكسيراً سحرياً هو ما أغفله الفيلم؛ أي ببساطة، بإمكان أي شخص أن يكون مشهوراً، لكن على من تؤثر هذه الشهرة، ومن يكسب منها، الفرد؟ شركات الإعلان؟ الجماهير؟

المساهمون