مسيح نجاد… إلقاء الحجارة من خلف درع المنفى

04 أكتوبر 2022
شابة تسير في طهران بلا حجاب يوم الأحد الماضي (نورفوتو/Getty)
+ الخط -

شابة بحجاب، تُعتقل ثم تموت. لم يرُق حجابها لشرطة الأخلاق. ماتت جينا أميني (مهسا أميني)، فانفجرت كثير من الإيرانيات غضباً. خلعن حجابهن القسري، رقصن في الشارع حاملات غطاء الرأس بأيديهن. كل مشهد، كل صورة، كل ضحية سقطت في الشارع وحجابها بيدها، وشعرها يلامس الهواء، كل تفصيلة في هذا الاحتجاج الذي تعرفه إيران منذ أسبوعين، أيقوني.
في الأيام الأولى للاحتجاجات الشعبية التي تلت قتل أميني، بدا الإعلام الغربي متأهباً، وجاهزاً لنقل تفاصيل الحراك بكل رمزيته: أسماء الضحايا، المدن التي تشهد تظاهرات، أسماء المعتقلين والمعتقلات، مواقف الفنانين... ثم بلحظة محددة، بلحظة ملل ربما من تكرار التغطية وانطفاء "شغف البدايات"، بدأت رحلة البحث عن بطل لهذا الحراك، عن ملهم ومحرّك لغضب الإيرانيات.
طبعاً، كانت البطلة هذه المرة جاهزة: مسيح علي نجاد. السيدة الإيرانية التي سبق أن أطلقت قبل سنوات حملة ضد إلزامية ارتداء الحجاب، من مكان سكنها في الولايات المتحدة. توائم نجاد كل خيالات الغرب عن غضب النساء في العالم غير الأبيض (العالم العربي، أفريقيا، إيران، آسيا...)، سيدة بشعر كثيف ووردة حمراء أو بيضاء لا تفارق خصلاتها، ونبرة عالية، وإنكليزية ممتازة.
في تلك اللحظة نفسها احتلت نجاد الشاشات: سي أن أن، أس أن بي سي، إتش بي أو، إي بي سي، فوكس نيوز... وبلمحة بصر، كانت كل المواقع تنقل لنا سيرتها، آراءها، وموقفها من الحراك... فكيف أصبحت سيدة تعيش في الولايات المتحدة بطلة حراك، دفعت الإيرانيات ثمنه دماً، واعتقالاً وعنفاً، وجثثاً متلاحقة على الأرض، هناك في طهران، والمدن الأخرى؟ كيف امتلكت جرأة تكرار تصريحها المستفز "أنا قائدة هذا الحراك؟" (مقابلة مع مجلة نيويوركر 24 سبتمبر 2022) من منزلها في نيويورك؟ كيف أُعطيت مساحة للسطو على شجاعة الإيرانيات "نساء كثيرات يذهبن إلى السجن بسبب ما دفعتهن إلى القيام به. لا أصدق أنني فعلت ذلك"؟
للسيدة نجاد مواقف كثيرة خارج إطار حملتها ضد إلزامية الحجاب، فهي مدافعة عن الاحتلال الإسرائيلي على سبيل المثال، دعت بشكل مكرر إلى غزو الولايات المتحدة لإيران، ومعجبة صراحة بتجارب الاستعمار بمختلف أشكاله... لكن لنترك ذلك جانباً حالياً، ونركز على صناعة صورتها كأيقونة للحراك الإيراني الأخير.
يكرّر الإعلام الغربي ما فعله خلال الثورات العربية في بدايتها، تدغدغه حاجة ملحّة إلى تصدير صورة واحدة، وجه واحد لكل حراك: من مصر إلى تونس إلى سورية. رموز ورموز، انكشفت هشاشة بعضها وانتهازية بعضها الآخر، بينما اختفى آخرون عن الشاشات والصحف الغربية، مع توغّل الثورات المضادة، وظهور تسويات دولية لإخماد غضب الشارع.
يصرّ أغلب الإعلام (الأميركي والبريطاني بشكل خاص، والفرنسي بدرجة أقل) بطبعاته وتغطيته اليومية، على تصدير خطاب ساذج، بقالب شجاع وثوري وجذاب. يكتفي ببديهيات هذا الحراك أو ذاك، مبتعداً عن تعقيدات القضايا وتشابكها في إيران أو أي بلد آخر، ومحاولاً تفادي الوقوع في فخ الإسلاموفوبيا عند تناول قضية إلزامية الحجاب مثلاً. لذا يهرع بما يشبه الوصاية على الشعوب السمراء، إلى تصدير أبطال يناسبون روايته، ونظرته إلى المنطقة، وإلى الشعوب وإلى الأنظمة التي تحكمنا، بينما لا نرى ذلك في أوكرانيا مثلاً، حيث تمنح المواقع والقنوات لكل محارب، لكل مواطن، لكل لاجئ، مساحة كافية ليخبر قصته في مواجهة الحرب الروسية.
قد يكون اختيار نجاد، منفذاً لم يجد الإعلام غيره، في وقت تعجز إيرانيات كثيرات عن الوصول إلى الإعلام الغربي، في ظل قبضة النظام الخانقة على كل ما يقال. لكن تبقى رواية نجاد غير أمينة للحقيقة ولا للواقع. فكيف تختزل هي الرواية، وتختزل فردية كل شابة وتجربتها وقصتها مع الحجاب ومع نظام أبوي، يرى في كل غير محجبة عاراً يستأهل الموت؟
يقال إن النفس البشرية توّاقة بشكل عام إلى خلق أبطال، تحديداً في اللحظات الحرجة من تاريخها، وتترسخ هذه الرغبة في المجتمعات التي تفتقد إلى الحياة السياسية والحزبية السوية، وهو ما يبدو مفهوماً في لحظة التّماس المباشر مع الموت، فتتحول القرابين إلى أيقونات: خالد سعيد، محمد البوعزيزي، شيماء الصباغ، شيرين أبو عاقلة...
لكن على أي حال، يبدو هذ الواقع بعيداً عن السيدة نجاد، التي تتمتّع في منفاها الأميركي بالحدّ الأدنى من الأمن والأمان والاستقرار على نقيض مواطناتها في طهران والمدن الإيرانية الأخرى، فمن هنّ بطلات هذا الحراك؟ كل شابة مجهولة الاسم سقطت في الشارع؟ كل شابة مجهولة الهوية اعتقلت واختفت في الأسابيع الأخيرة في معتقلات مختلفة.

المساهمون