عند الحديث عن المشاريع الواعدة والجديدة التي أطلقتها "نتفليكس" مع بداية هذا العام، فلا بد لنا أن نذكر في مقدمتها مسلسل The Lying Life of Adults (حياة البالغين الكاذبة) الناطق باللغة الإيطالية، والمقتبس عن رواية الكاتبة إيلينا فرانتي التي اختارتها مجلة تايم الأميركية واحدة من بين أكثر مائة شخصية مؤثرة لعام 2016.
لم تكن تلك أولى أعمال فرانتي المقتبسة للتلفزيون، بل سبقتها سلسلة My Brilliant Friend لشبكة HBO، وهي الرواية الأولى تحت العنوان ذاته من الرباعية النابوليتانية الشهيرة التي أنجزتها فرانتي على مدى أربعة أعوام متتالية. ليس من المستغرب أن تجتذب أعمال الكاتبة (79 عاماً)، مخرجي وصناع الدراما السينمائية والتلفزيونية أينما كانوا، لما فيها من موضوعات معاصرة ومخيلة بصرية، وحوارات شعرية وأدبية، صيغت باللغة الإيطالية المحكية، واتخذت من أزقة ضواحي المدن وصراعاتها موضوعات لها.
تعيش بطلة المسلسل الجديد جيوفانا (جيوردانا مارينغو)، وهي مراهقة تعاني من علاماتها الدراسية المتدنية، في كنف والديها اليساريين والأكاديميين، محاولة خلق بعض الصداقات وسط بيئة متكلفة لا تنسجم مع أفكارها العفوية، ولا مع اهتماماتها الأدبية.
تسمع مرة والدها أندريا (أليساندرو بريزيوسي)، يشبهها بعمتها فيتوريا (فاليريا غولينو)، المستبعدة منذ سنوات عن منزل أخيها المنعم، فيسيطر عليها الفضول لمعرفة سر العمة الغائبة، حتى عن ألبومات الصور الجماعية. سرعان ما تطرق جيوفانا باب "بعبع الطفولة" للمرة الأولى، وتبدأ من بعدها رحلة استكشاف هويتها الخاصة، وسط مزيج من مشاعر التمرد والرضى ومحاولات فهم سنوات الماضي وما تسلل منها إلى عائلة جيوفانا النووية.
كما يتضح من عنوانه، يناقش مسلسل "حياة البالغين الكاذبة" الأكاذيب، خاصة تلك التي يدعوها بعضهم حياة، أو تلك "البيضاء" التي تتسلل إلى جوهر الأشياء، وتحدث فيها نخرًا عميقًا تتراكم فوقه الأنقاض على هيئة مسكن هادئ في أحد الأحياء الراقية. تتوزع السلسلة على ستة فصول معنونة: "الجمال"، و"الشبه"، و"المرارة"، و"الوحدة"، و"الحب"، و"الحقيقة"، يدور كل منها، في أقل من ساعة، حول العلاقات العائلية التي ساد فيها سوء الفهم، وباتت المراوغة طريقها الوحيد للنجاة من ألم حتمي تسببه الحقيقة.
يتتبع المسلسل سير جيلين متعاقبين يخوضان معارك العيش في بيئتين متباعدتين، إذ بقيت فيتوريا في المكان الذي هرب منه شقيقها أندريا إلى الأبد؛ الجانب الآخر الأكثر وعورة من نابولي، حيث مسقط رأس عائلتهما الفقيرة. بيتها القابع في دور علوي لمنزل دعارة، مخلخل ومهترئ، وممتلئ بأعقاب السجائر التي لا تفارق يد فيتوريا، حتى عندما تهدد أحدًا ما بسكين. امرأة سليطة اللسان، غير متعلمة، تشتم ملء فمها، ومع ذلك تحرص على زيارة الكنيسة كل أحد برفقة أولاد عشيقها الراحل وزوجته، في حين تكن كرهًا عظيمًا لشقيقها أندريا، وتحمله مسؤولية المصائب التي حلت بعائلتهما، ساخرة من محيطه الأرستقراطي المثقف الزائف ومن "اشتراكية الشمبانيا"، وسط جلسات النخبة وأحاديثهم المفتعلة.
تغير فيتوريا حياة ابنة شقيقها المراهقة، إذ تجيب العمة الصاخبة، من دون دراية أو قصد، عن أسئلة جيوفانا الأكثر تعقيدًا. هي النقيض الحي لمثقفي الصالونات والمثال الأقرب على فلاسفة الشارع الذين يستقون حكمهم من دروس الحياة والتقاليد الشفوية والدينية. طريقتها في العيش تمنح درسًا عمليًا عن معنى النجاة من التجارب الصعبة، خاصة بالنسبة للفتيات اليافعات اللاتي يواجهن العالم كنساء للمرة الأولى، ويدركن متعة تلك الرحلة ومشاقها الكثيرة، ويتعرفن إلى معنى الحب والجسد والآخر في الوقت ذاته الذي يجاهدن فيه لاجتياز اختبارات الحياة الأخرى أيضًا، كالتفوق في الدراسة والاستقلال المادي ومحاربة الشكوك المتعلقة بـ"التجربة الأنثوية". هذه الأخيرة تشكل حجر أساس في بناء معظم شخصيات فرانتي النسائية، خاصة فيتوريا التي يبدو أنها تخلصت من تلك الشكوك بعد وفاة عشيقها، وعقدت عزمها على مواصلة العيش امرأة عازبة، مخلصة لحبها القديم بروحها وحرة بجسدها، متأقلمة مع غياب الأحلام والطموحات، والحب الذي تصفه بـ"النافذة في غرفة الحمام"، مانحة باستكانة الخائبين لجيوفانا المتلهفة لإيجاد هويتها منظورًا مختلفًا وأكثر صدقًا عن مفاهيم الحرية والجنس والوفاء في العلاقات الزوجية.
تتقاطع رحلة جيوفانا، التي تدور أحداثها في التسعينيات من القرن الماضي، في نبذ وتبني الهويات المتوارثة، مع أزمة اضطراب الهوية التي عاشتها مدينة نابولي ذاتها، وذلك مع التحولات الاجتماعية العميقة التي طاولتها، وانتشار الثقافات البديلة والأناركية عقب انتهاء سنوات الرصاص في أواخر الثمانينيات، وهي المرحلة الأكثر تأثيرًا على مصائر الشخصيات مختلفة الأعمار، كما يقترح صناع العمل.
تعود أحداث المسلسل إلى الوراء لتكشف عن قصة فيتوريا وبلوغها سن الرشد في زمن غياب الحقائق المتماسكة وتغير طبيعة الصراعات، سواء كانت أيديولوجية أو طبقية أو ثقافية، إذ تنجذب فيتوريا في شبابها إلى رفض القيم السائدة وتتمرد على أفراد عائلتها ذوي الياقات الزرقاء، في حين ينشدّ أخيها إلى مفاهيم الماركسية وأحزابها.
أما جيوفانا، وهي ابنة المناخ الأكثر انفتاحًا وسياسية، فتعود إلى الوراء لاكتشاف جذور عائلتها، غير آبهة بالسياسة، وتنجذب لطلاب المدرسة الكاثوليكية المتدينين والبعيدين كل البعد عن أجواء نشأتها وعلى عكس أقرانها، أو حتى ذويها وأسلافها، تبدي جيوفانا اهتمامًا طفيفًا بالجنس وبأسئلة الهوية الجنسية. ومع أنها تسعى للانفتاح وتظهر ميولًا ليبرالية، ترفض خيانة والدها لأمها، في حين تقبله هذه الأخيرة وتعمل على استرداد علاقتهما، خلافًا لأفكارها التقدمية، وخوفًا من انهيار عائلتها القابعة في أدنى الطبقة الوسطى.
يفيد الفارق الزمني بين تجارب النساء الثلاث عبر المسلسل في السؤال عما أنجزته عقود من النسوية والانتصارات الملموسة على الصعيدين الحقوقي والأخلاقي، في الارتقاء بتجربة الشابات اليافعات وحماية عوالمهن النفسية، وإعادة تقديمهن لمفاهيم الحب والجنس ولدينكاميكيات العلاقة مع الرجل.
تفاجأ جيوفانا في فصل "الحقيقة"، أن النساء لم يقطعن شوطًا كبيرًا على هذا الصعيد، وتذهل بمدى التأثير الهائل للرجل على جميع الإناث من حولها، "حتى على النساء الشجاعات والعنيفات مثل فيتوريا"، التي تهب حياتها لعشيقها الراحل، أو المتعلمات والمستقلات، مثل والدتها التي يثبطها غياب زوجها. تخشى جيوفانا أن تغدو حلقة أخرى في تلك السلسلة غير المنتهية، فترمي السوار المتوارث عن نساء عائلتها في المياه العميقة، وتعيد رسم علاقاتها مع الذكور من حولها، ومن بينهم والدها، من دون استنساخ الأفكار والتجارب السابقة.
يظهر "حياة البالغين الكاذبة" التحولات الجذرية التي يمر بها كل من الأفراد والعائلات والمجتمعات الصغيرة، ويرصد التغيرات التي تطاول أفكارهم ومبادئهم وعاداتهم مع مرور الزمن، وتجعل منهم أشخاصًا آخرين، يفشل حتى المقربون منهم في التعرف إليهم، راسمًا قوس تلك التحولات بدقة، مبرزًا كل انعطاف أو منحدر، كذلك الذي قاد إلى نشوء عالمين متناقضين في جغرافيتهما الاجتماعية، مع أنهما نتجا عن انشطار العائلة ذاتها؛ الأول تقدمي، يقبع فوق التلال المرتفعة لنابولي، والثاني منخفض، حيث تعيش العمة الضالة. أما عالم جيوفانا، فيتمد بين هذين الاثنين، على الجسر المقطوع الذي لا يودي إلى مكان قبالة منزلها، وكأنه، مثل عالم جيوفانا، لا يزال يبحث عن وجهته.
يرى المسلسل العالم من عيني من يجاهد لفهمه، ويصنع لنفسه مكانَا بارزًا بين أعمال تلفزيونية وسينمائية عديدة، تتطرق إلى قصص البلوغ وتبحث فيها عما أوى إلى عتمة المجهول.