مسلسل "لمكتوب" المغربي... دراما تحتفي بالتاريخ والذاكرة

30 يوليو 2022
ينتمي علاء أكعبون إلى الجيل الجديد داخل الدراما في المغرب (فيسبوك)
+ الخط -

ثمّة وعيٌ خفيّ مُسبق، يُظلّل سيرة المخرج التلفزيوني المغربي علاء أكعبون في علاقته بالمُنجز التلفزيوني، خاصة في مسلسله الجديد "لمَكتوب" (2022). إذْ إن المُتتبّع لمسار هذا المخرج الواعد، ستتكشّف لديه تلك العلاقة الخفية والآسرة، التي ينسجها في جسده مع مفهوم "التجريب".

يعمل المفهوم عند أكعبون كعنصرٍ إجرائي، لا يتوسّله صاحب "الزعيمة" فقط من أجل استبدال موضوعاته بين فينة وأخرى، بقدر ما يشتغل كأفق بصريّ، تغدو فيه الكاميرا عبارة عن وسيلة تدين الواقع المغربي وتصدّعاته، وتُفجّر مَكنوناته السياسية والاجتماعية. ما يجعل المفهوم هنا، قادراً على اختراق باراديغم الصورة الفنية والتقاط نتوءاتٍ صغيرةٍ من واقعٍ اجتماعي مُرتبك. غير أنه في مسلسل الأخير "لمَكتوب"، تبرز حدة الموضوع على مُستوى نسج علاقةٍ مُتباينةٍ مع المُشاهد واجتراح صُوَر لا تبدو في تضاريسها البصرية مألوفة بالنظر إلى تاريخه، لأن موضوع المُسلسل يفرض سُلطة على المُشاهد، ويدعوه بشكلٍ مُبطّن إلى المُشاركة في صناعة رأيه ومُتخيّله، لما يتنزّله من منزلةٍ عميقة في اجتماعه وتاريخه وذاكرته. فـ"الشيخة" (مغنّية شعبية) تحتلّ مكانة قويّة في ذاكرة المَغاربة، لا لكونها تُغنّي أمام الرجال في حفلاتٍ وأعراسٍ، وإنّما لمكانتها الجوهرية في تاريخه وذاكرته. لا سيما وأنّ الكثير من الفنّانات المغربيّات، جعلن من أغانيهنّ وسيلة تواصلٍ مع الناس ونقد واضح للسُلطة السياسيّة القائمة آنذاك، كما هو الحال في أغنية "خربوشة" التي تنتقد بشكلٍ مُعلن أهوال القائد بنعيسى خلال حقبةٍ تاريخيّة مُؤلمة ذات جرحٍ كبير في الذاكرة الجمعية للمغاربة.

من ثمّ، فإنّ طرق موضوع الشيخة وذاكرتها، لم يكُن سهلاً مروره تلفزيونياً، دون أنْ يحدث جدلاً شعبوياً أو نقاشاً أنثروبولوجياً أو حتّى نزوة عابرة في مناطق يباب من الاجتماع المغربي. فالنقاش الفنّي الجمالي ظلّ مُغيّباً، لأنّ الذين ساهموا في تأجيجه ليسوا نقّاداً باستثناء أسماءٍ نقديّة قليلةٍ، عملت على تقديم رؤية وقراءة وتصوّر فني للمُسلسل من خلال قراءة موضوعه وعلاقته بسيرة المُخرج وأسئلته على مُستوى الشخصية والصورة وعلاقتهما بعنصر التخييل. مع العلم أنّ المسلسل لا يستعرض أيّ فنّانة بعينها من الذاكرة التاريخيّة، وإنّما يجعل من "الشيخة" موضوعاً أثيراً للتفكير والتخييل والعمل على إقامة تواشجاتٍ بصريّة، تمتح زخمها من قوّة التاريخ وحساسيته من الواقع، بما يحبل به من أفكارٍ تقليدية ماضوية ماتزال مُترسّبة في بنية تفكيره.

ينتمي علاء أكعبون إلى الجيل الجديد داخل الدراما في المغرب، إذْ على الرغم من الهشاشة التي تطبع بعض أعماله التلفزيونية من ناحية التأليف، فإنّ للمُخرج بصمته الخاصّة كمُخرجٍ شاب. ذلك أنّ مسلسله "لمكتوب" يختزن اشتغالاً فنياً مُكثّفاً على مُستوى الصورة وتغيير أنماطها بين حلقةٍ وأخرى، بما يجعل المُسلسل من الناحية الجماليّة غنياً بالرموز والعلامات. رغم أنه لا يطرح أيّ أسئلة فكريّة تتعلّق بتحوّلات الواقع المغربيّ وسوسيولوجيته. فهو لا يعدو أنْ يكون مسلسلاً، يُركّز بدرجةٍ أولى على نقد مُختلف أنماط التفكير المُسبق الذي كوّنه المجتمع عن "الشيخة"، وكيف أنّ هذا التمثّل القديم، ما يزال حاضراً وبارزاً بشكلٍ فجّ ومُرتبك في تفكير وسلوكات الفرد المعاصر. إنّنا هنا أمام دراما لا تُفكّر، بقدر ما تفضح وتُعرّي هذا اللامفكّر الفكري المُترسّب في الذات الجمعية، وكيف يعمل الفرد اليوم على إعادة هذا المكبوت الرمزي للسياقات والأفكار والرؤى والتصوّرات، ومُحاولة استثماره في حياته اليوميّة، مُتناسياً أنّ هذا المكبوت لا يُمكن إسقاطه على الزمن المعاصر.

وفقاً لذلك، يغوص علاء أكعبون على مدار حلقات المسلسل من خلال سردية بصريّة، تعمل على نقد النظرة النمطيّة حول الفنّانة الشعبية، عاملاً على إعادة الاعتبار لها ولمكانتها الرمزيّة في مغرب اليوم. إذْ لا يكتمل تاريخ الأغنية المغربيّة، بدون فنّانات شعبيات صنعن مُتخيّل هذا البلد وراكمن تراثًا غنائياً أصيلاً، يمتح زخمه الفنّي من الفنّ الشعبي المغربيّ خلال عصورٍ مُختلفة ومُتباينة. كما أنّ الأداء القويّ للمُمثّلين، كان عاملاً في نجاح المُسلسل من الناحية الفنّية، خاصّة وأنّ المخرج عمد إلى وجوهٍ معروفة لها باعٌ طويلٌ في المَشهد التلفزيوني في السنوات الأخيرة، ما جعل الناس تتفاعل بطريقةٍ هستيرية مع بعض وجوهه وتعمل جاهدة على معرفة أيّ جديدٍ أو تعليقٍ للمُمثّلة على وسائل التواصل الاجتماعي، لا سيما وأنّ الجدل الذي رافق المسلسل منذ عرض حلقته الأولى، ساهم في بروز الخطاب الشعبي وتراجع التقييم الفنّي والجمالي.

سينما ودراما
التحديثات الحية

لم يكُن علاء أكعبون، ينتظر أنْ يُحقّقه مُسلسل "مكتوب" كلّ هذا النجاح، في وقتٍ نعثر على مسلسلاتٍ أخرى له تتفوّق جمالياً وبسنواتٍ ضوئية على جماليّات "لمكتوب" لكنّ الخطاب الشعبوي صنع المسلسل وجعله ينجح جماهيرياً، قبل أنْ يتجاوز الأسبوع الأوّل من عرضه. لكنْ ما يُحسب جمالياً للمخرج، أنّه أعاد الاعتبار لمفهوم التاريخ في مُسلسله هذا، من خلال استثماره بصرياً لنموذج الفنّانة الشعبية، وعمله على نسج علاقة تخييلية قوامها الإبداع والابتكار لا الأرشفة والتوثيق، بحكم أنّ المسلسل، لا يجعل من التاريخ مسرحاً له، وإنّما من التاريخ أنْ يغدو ذاكرة قويّة أشبه بخزّان بصريّ لا ينضب.

المساهمون