على أي شخص يبحث عن السلام النفسي، أن يواجه ماضيه في مرحلة ما. ولكن ماذا لو كان هذا الماضي أكثر تعقيداً مما نتخيل، متجاوزاً تجربة الإنسان الذاتية ومحمّلاً بأعباء ما عاناه أسلافه؟
حسب عالم النفس السويسري، كارل يونغ، تمتد الصدمات التي يعيشها البشر إلى ما قبل وجودهم في هذا العالم. وعلى الرغم من كونهم لم يختبروها بأنفسهم، إلا أنهم قد يرثوا بعض أعراضها من أسلافهم، ما يجعلهم عرضة لاستجابات غير مفهومة، تتوضّح عند تعرضهم لمحفزات معينة.
هذه التروما المنتقلة عبر الأجيال، هي موضوعة المسلسل التركي "ذات أخرى" (Another Self) الذي انطلق عرضه على منصة نتفليكس أخيراً. دراما تخوض خلالها ثلاث نساء مغامرة غير متوقعة للتواصل مع جانبهن الروحي على مدى ثماني حلقات، في دراما تتشابك فيها موضوعات الصداقة والحب والبحث عن الذات.
تتمحور القصة حول ثلاث صديقات، آدا (توبا بويوكستون) الجرّاحة التي حصلت على فرصة للسفر إلى الخارج لتكون جزءًا من فريق بحثي. وسيجفي (بونجوك يلماز) المحامية الطموح التي تعاني من مرض السرطان، وليلى (وزير سيدا) المؤثرة على مواقع التواصل الاجتماعي، ويتركّز اهتمامها على زوجها وابنها الوحيد. بدأت هذه الصداقة أثناء الدراسة، وتعزّزت بمرور الوقت. وعلى الرغم من امتلاك كل من الصديقات الثلاث لشخصية مختلفة عن الأخرى، إلا أنهن كن بجانب بعضهن بعضاً دائماً في الأوقات الجيدة والصعبة.
تنطلق الحكاية عندما تتعرض سيجفي لانتكاسة صحية جديدة، تفقد على إثرها الأمل بالإجراءات الطبية التقليدية التي تتلقاها، لتجد بالصدفة إعلاناً عن علاج بديل، عند المعلّم الروحي زمان (فرات تانيس)، المقيم في مدينة إيفاليك الساحلية. تقرر سيجفي السفر للقائه، وتقنع كلا من آدا وليلى بمرافقتها، لتبدأ الصديقات الثلاث رحلة تدفعهن إلى إعادة تقييم حياتهن، وإيجاد ذواتهن الحقيقية.
توحي بداية المسلسل أننا أمام دراما مختلفة، تنطلق من فكرة مركزية، وهي مدى تأثير ماضي الشخصيات في حاضرها، من خلال الجلسات التي يديرها زمان. جلسات قد تبدو سوريالية بعض الشيء، وإن كانت مستندة إلى مدرسة في العلاج النفسي، ظهرت في تسعينيات القرن المنصرم في ألمانيا، أسسها المعالج النفسي بيرت هيلينغر. هذه الطريقة البديلة في العلاج، تقوم على فكرة أن الموروثات التي نحملها ليست جسدية، فقط بل نفسية أيضاً، فلا بد من التواصل مع ماضينا، والعودة إلى ذواتنا التي توجد فيها جذور المشكلات، بدلاً من البحث عن حلول في الخارج.
ومن خلال هذه الجلسات، يكشف السيناريو بسلاسة عن المشكلات النفسية لبطلات المسلسل، وتاريخهن العائلي، والأحداث التي صنعت شخصياتهنّ وما أصبحن عليه اليوم. ولكنّ مواطن الضعف في العمل، تبدأ في الظهور بعد عدّة حلقات، عندما يبتعد السيناريو عن الاتجاه الروحاني الذي مهد له في البدايات، ويغرق في قصص حب تقليدية، ومتوقعة، قد تبعث على الملل في بعض الأحيان. هذا كله أثقل المسلسل بالتطويل والحشو، الذي زاد من الشعور ببطء زمن بعض الحلقات.
يضيء المسلسل على نماذج واقعية لنساء ناجحات ظاهرياً لكنهن متخبطات من الداخل، عالقات في الماضي، لم يستطعن الشفاء من جراح الطفولة؛ فآدا العقلانية التي تجد صعوبة في التواصل مع مشاعرها ومعرفة رغباتها الحقيقية، هي نتيجة تربية أم صارمة، أرادت تلافي الأخطاء التي جرّتها إليها العاطفة بحرمان ابنتها من الحب الذي تحتاجه، على النقيض من ليلى العاطفية، المدللة، ابنة العائلة الثريّة، التي ترى الحياة من زاوية مغايرة. لذا، عندما وضعتهما الحياة في مواجهة الخيانة، كانت ردة فعل كل منهما مختلفة عن الأخرى.
في حين أن شخصية سيجفي الهشّة، التي تفتقد الجرأة، هي نتاج حادثة الطفولة التي تستهل بها الحلقة الأولى، التي تتسبّب في شعورها الدائم بالذنب وتعلقها المرضي بوالدتها، وشعور الأم في المقابل بضرورة السيطرة على كل مفاصل حياة سيجفي لأنها ما تزال في نظرها الطفلة الصغيرة التي تحتاج إلى الحماية.
الفكرة، كما تقول مؤلفة المسلسل نوران إيفرين ست، استغرقت خمس سنوات من البحث والدراسة حتى تبلورت على الورق. ومع أن الشخصيات هي من خيال الكاتبة تماماً، إلا أنها تعكس انطباعاتها عن جلسات العلاج العائلي التي حضرتها، وتجارب أصدقائها أيضاً الذين خاضوا هذه التجربة.
في "ذات أخرى"، نعثر على كل عوامل الجذب الموجودة عادة في المسلسلات التركية؛ من نجوم محبوبين وحكايات رومنسية وأماكن طبيعية خلابة، ما جعله من الإنتاجات الأكثر مشاهدة على "نتفليكس" فور إطلاقه؟ ولكنّه وبرغم طابعه الترفيهي، يدفعنا إلى التواصل مع ذواتنا غير المرئية للآخرين ، وسماع دواخلنا، من خلال حوارات صادقة لشخصيات تشبهنا، لنعيد النظر مرة أخرى في الجراح المفتوحة التي نحملها معنا ونتجاهلها في عجلة الحياة.