في بداية ثمانينيات القرن الـ20، بُنيَ "مسرح الرشيد"، فانضمّ إلى مسارح أخرى مُقامة حينها في بغداد. يومها، اعتبره كثيرون تشييداً عمرانياً وفنياً مختلفاً، قبل أنْ يُصبح مقرّاً لـ"دائرة السينما والمسرح"، لامتلاكه ومبنى الدائرة إمكانيات وقدرات وأجهزة ومعدّات حديثة ومتطوّرة، أدهشت المُطّلعين عليها والمتعاملين معها، وشملت مختلف تفاصيل العملية الإبداعية في السينما والمسرح.
لكنّ المبنى دُمِّر أثناء الغزو الأميركي لبغداد، كمسارح أخرى أيضاً. خلال 17 عاماً، ظلّ "مسرح الرشيد" على حاله هذه، رغم مناشدات فنانين لإعادة إعماره. ظلّت أسباب عدم الاستجابة للمطلب غير معروفة، وإنْ كانت هناك أسبابٌ فغير مقنعة، ما أدّى إلى دخول "دائرة السينما والمسرح" في نفق طويل من الوعود الكاذبة والعهود المزيّفة. ويحتوي المسرح على 528 مقعداً، وبني عام 1980، من قبل شركة فرنسية سويسرية. لكنّ هذا كلّه تعرّض لحرقٍ وتدمير شامل بعد أحداث عام 2003.
لم يجد الفنانون وسيلة إلا أنْ يتولوا هم أنفسهم إعادة إعمار المبنى، مُستفيدين من وجود فنان منهم، هو أحمد حسن موسى، في منصب الإدارة العامة للدائرة، فهو الابن الأصيل للمسرح، وأحد الأعمدة الرئيسية في الإخراج المسرحي، إذْ له أعمال مسرحية كثيرة، وهو حقّقها بالتعاون مع مختلف كوادر وملاكات الدائرة الذين تفاعلوا معه لتحقيق إعادة إعمار هذا المبنى الفنيّ، في زمن صعب، متمثّل بانحسار الموارد، وشدّة الأزمة المالية الخانقة، وجائحة كورونا التي عطّلت الحياة، من دون أنْ تُعطّل إرادة مبدعي "دائرة السينما والمسرح"، من فنانين وموظّفين.
عن ذلك، يقول أحمد حسن موسى لـ"العربي الجديد" إنّ الفكرة بدأت من الحاجة الفعلية لوجود عدد من الأبنية المسرحية، لإقامة مهرجانات محلية ودولية، ذات قياسات متنوّعة ومختلفة: "بعد العثور على فضاء مسرح الرافدين (كان مجمّعاً لموادٍ استهلاكية)، بادرنا مع الأقسام المُساندة في الدائرة إلى تنظيفه، وإعداد دراسات هندسية واستشارية لوضع خريطة مناسبة لما سيكون عليه شكل المسرح وحجمه، كبناء مسرح أشور، الجاهز حالياً للعرض، بعد افتتاحه قبل أكثر من شهرين".
عن فكرة إعادة إعمار "مسرح الرشيد" التي ساهم الفنانون بدور كبير فيها، قال موسى: "بعد نجاحنا في بناء مسرح أشور، انتقلنا إلى حملة إعمار مسرح الرشيد. وعود كثيرة لم يجنِ منها المسرحيون سوى السراب، حتى باتت عملية إعادة هذا المرفق الإبداعي والحيوي إلى الحياة مستعصية، علماً أنّه كان من أفضل المسارح العراقية والعربية، إن لم يكن قد فاقها، فنياً وتقنياً وعمرانياً. لم تغب الفكرة عن بال الفنانين حتى عام 2017، حين نظمت حملة تطوعية لفنانين عديدين، وكنت أحد أعضائها. لكننا لم نمتلك حينها سلطة القرار أو التمويل، فكانت الحملة بسيطة، ورغم هذا أحدثت ردات فعل ممتازة في الوسط الفني".
أضاف موسى: "بعد تسلّمي مهام إدارة هذه المؤسسة، كان هاجسي إعادة طرح فكرة إعمار المسرح الذي عملتُ فيه مخرجاً لعروض مسرحية مختلفة. بدأتُ البحث عن الخرائط الخاصة به وعن الملف التقني، لكنّي للأسف لم أعثر على بيانات كثيرة خاصة به، بسبب فقدان مقتنيات المبنى، بالإضافة الى أنّ كلفة إعماره، كما هو مثبت في التندّر الهندسي لوزارة الثقافة، تبلغ 38 مليار دينار عراقي، وهذا مبلغ كبير جداً، لا يتناسب مع مدخول الدائرة، بوصفها تعمل بنظام التمويل الذاتي، ولا تملك سوى إيراداتها الخاصّة بها التي توقّفت بسبب الظروف القاهرة التي يمرّ العراق والعالم بها".
وأكّد موسى أنّ درب الألف ميل يبدأ بخطوة، لهذا "تواصلتُ مع القسم الهندسي في الوزارة، وحصلتُ منه على المخطّطات والتكاليف والشهادات التي تؤكّد أنّ الأعمدة والجدران جاهزة للعمل، فبدأ العمل الفعلي أولاً مع مهندسين استشاريين قدّموا ملاحظاتهم، ورسمت الخرائط مجدّداً، وشكلت لجان هندسية ومالية وتدقيقية، ولجان فرعية لتحديد التكاليف الأولية، ثمّ عُقد اجتماع لمجلس إدارة الدائرة برئاسة وزير الثقافة السابق عبد الأمير الحمداني، وبُثّ الاجتماع كاملاً ومباشرة على القناة العراقية، وتمّت الموافقة بالإجماع على إعادة إعمار (مسرح الرشيد) وتأهيله".
وأشار موسى إلى أنّ الحملة بدأت منتصف مايو/ أيار الفائت، بعد الانتهاء من استحداث "مسرح أشور"، بتنظيف الموقع الذي استمرّ شهرين متتاليين، بسبب حجم الأنقاض وعمليات رفع الجدران المتضرّرة، فأُهل موقف المبنى وبناية المسرح والطابقين الأول والثاني بنسبة تجاوزت 50 في المائة، والآن "باشرنا في إعمار الطابق الثالث".
سيستقبل عروضاً مسرحية وسينمائية ومهرجانات فنية محلية ودولية بدءاً من أواخر نوفمبر
وعن الجهات التي شاركت الفنانين في تمويل المشروع، قال موسى إنّ الحملة بدأت بـ300 مليون دينار عراقي، والمبلغ خاص بإيرادات الدائرة من "شركة بابل للإنتاج السينمائي والتلفزيوني"، وقدم دعم أولي للمشروع من صندوق "تمكين" لدعم الأنشطة الثقافية والمجتمعية في "المصرف المركزي العراقي" و"رابطة المصارف الخاصة". وذكر أنّ هناك استعانة بخبرات هندسية ومعمارية وفنية: "استفدنا من تلك الخبرات لأنّ المشروع كبير والمبنى متعدّد الطوابق، علماً أنّ أغلب الاستشارات تطوّعية، في الهندسيّ والتنفيذي والاستشاري الخاص بضمان كفاءة الإنجاز". وشدّد على أنّ العمل "يسير بكفاءة وتخطيط مسيطر عليه من استشاريين لهم خبرات كبيرة".
عن موعد افتتاح "مسرح الرشيد"، قال موسى إنّه سيستقبل عروضاً مسرحية وسينمائية ومهرجانات فنية، محلية ودولية، بدءاً من أواخر نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي، ربما في 28 منه، بعد 17 عاماً على توقّفه عن العمل، بسبب أضرارٍ كبيرة أصابته في الحرب على العراق عام 2003. والمبنى يضمّ الصالة الكبرى وملحقاتها، وغرف الممثلين والمسرح وصالة استقبال الضيوف والصالة الداخلية، كما طُور نظام الإضاءة.