لم يحلم المَغاربة يوماً أن تشهد مدينة الدار البيضاء خلال التسعينيّات تشييد وإقامة أكبر مسجدٍ في المغرب، هو اليوم الثالث في أفريقيا والثالث عشر في العالم. صرحٌ معماريّ مغربيّ مُتفرّد شُيد على مياه المُحيط الأطلسي، إذ يبدو في صُوَره المُتعدّدة وكأنّه يحرس المدينة خوفاً عليها من التحديث والتعمير.
ولا غرابة أن يكون المسجد أيقونة شامخة في وجه التسليع الاقتصادي الذي يجعل مدينة الدار البيضاء وفضاءاتها مجرّد مساحاتٍ تجارية قابلة للاكتساح العمراني، من دون أن يُفكّر أعيانها يوماً في إعادة بناء حدائق تراثية وتشييد مكتباتٍ تاريخيّة وترميم مبانٍ وأقواس ومقاهٍ لعبت دوراً كبيراً في تاريخ المغرب.
على هذا الأساس، يُعطي مسجد الحسن انطباعاً أوّلياً حول ضرورة وأسباب تشييد تحفةٍ معماريةٍ تحرس المدينة وتُرمّم هواجسها السياحية وتُؤسّس تاريخياً، بما يتماشى مع جوهر المدينة وذاكرتها في عيون كلّ من أحبّها. وعلى الرغم من أنّ المسجد قد تمّ العمل عليه ليل نهار، لاستكمال عملية البناء ضمن المدّة التي أرادها الملك الراحل الحسن الثاني إهداءً لروح والده الملك الراحل محمد الخامس، فإنّ ظروف ومُدّة البناء لم تتمّ وفق الطريقة التي خُطّط لها.
تأجلت عملية البناء إلى عام 1986 حين وضع الحسن الثاني حجر الأساس، واعتمد طاقمين، كلُّ واحدٍ يضم آلافاً من العمّال والمهنيين والحرفيين الذين قدموا من مُختلف المُدن المغربيّة واشتغلوا على بناء المسجد وتزويقه وجعل جماله أسطورياً تسرح فيه روح الزائر، وذلك إلى حدود عام 1993 وتزامناً مع المولد النبوي الشريف، حين دشّن الملك المسجد وخطّ مساره وطريقة تسييره. وهكذا، أضحت للمسجد الذي كلف بناؤه نحو 500 مليون دولار أميركي مؤسّسة تابعة له تُعرف بـ "مؤسّسة الحسن الثاني"، وتضمّ العديد من الفضاءات الدينية والثقافية التي تخدم سكّان مدينة الدار البيضاء، وتُنعش الجانب السياحي للمدينة ويوميّاتها.
صمّم مسجد الحسن الثاني المُهندس المعماري الفرنسيّ الشهير ميشيل بانسو (1924-1999)، وهو من أبرز المُصمّمين الذين عاشوا في مدينة الدار البيضاء وعُرفوا باهتمامهم الكبير بالحضارة العربيّة الإسلامية، لا سيما على مُستوى تمثّلاتها داخل العمارة المعاصرة. فكان تشييد المسجد يقوم على بنية تاريخيّة محضة وأفق فنّي مُنفتح على مناخات الحداثة والتحديث.
السائح يندهش بحجم المئذنة التي يصل ارتفاعها إلى نحو 210 أمتار. ويقع المسجد على مساحةٍ تبلغ 9 هكتارات، وفيه قاعة صلاة تبلغ مساحتها 20 ألف متر مربع إلى جانب فضاءات أخرى تابعة للمسجد، أهمّها التي استُحدثت في الـ10 سنوات الأخيرة، كاستحداث أكاديميّة الفنون التقليدية التي تضم مجموعة من الدورات التأهيلية الخاصة بالجبس والزلّيج والحجر المنقوش وصياغة المُجوهرات وغيرها، ما يجعل المسجد يضطلع إلى جانب الهاجس الدّيني بالدور التكويني الذي يُعيد إعطاء قيمةٍ أكبر للعمارة العربيّة الإسلامية والعناصر الفنّية والجماليّة التي تُساهم في تتويجها وخلق جماليّاتها، من دون اللجوء إلى أيّ نماذجٍ وابتكارات من التصاميم الغربيّة.
ولعلّ هذا التشبث بالحضارة نسقاً وتفكيراً وهندسة جعله من روائع المساجد الموجودة في العالم التي تتميّز باستقلالية كبيرة، ذلك أنّ المسجد يتجاوز البُعد الدّيني، عبر إبراز الجانب الحضاري والفنّي وبراعة الحرفيين المَغاربة في صناعة صرح معماريّ قويّ ومُتماسكٍ.
ويتميّز معمار مسجد الحسن الثاني بقدرة هائلةٍ على خطف عيون الناظرين، بعدما شيّده ميشيل بانسو على جانبين، الأوّل من جهة اليابسة عبارة عن مدخل جماليّ مُزيّنٍ بأبوابٍ مُزركشةٍ وأقواسٍ منقوشةٍ ذات دلالاتٍ تاريخيّة. أمّا الجانب الآخر فتأسس وسط البحر، حيث أمواج الأطلسي تتلاطم على جدار المسجد بطريقة ترجّ الأجساد وتمنحها شعوراً مُذهلاً لحظة اشتباك الموج وهيجان البحر، وذلك على مدى شاسعٍ يخترق عباب الفراغ، حتّى تبدو المئذنة وكأنّها تُلامس زرقة السماء.
وعلى الرغم من الهاجس التاريخيّ المُتمثّل في محاكاة الحضارة العربيّة الإسلامية من النّاحية المعمارية والزخرفية، فإنّ المُصمّم الفرنسيّ قد فطن مُبكّراً إلى النزوع التحديثي في المَسجد بطريقةٍ تجعله مسايراً للتطورات التي تشهدها المباني التاريخيّة حول العالم.