مريم الذبحاني: "في اليمن حَمْلُ السلاح عاديّ وحمل الكاميرا يقتل"

17 مارس 2021
مريم الذبحاني: الفيلم صورة أخرى عن الرجولة الحنونة (عمّارالقمش، الملف الصحافي)
+ الخط -

 

في فيلمها الوثائقي الثاني "في المُنتصف" (2019)، جعلت المُخرجة اليمنية مريم الذبحاني الحرب اليمنية مُختبراً لطرح أسئلة الحرب ومأساتها، ومدى تأثيرها على نفوس واجتماع، في بيئة مُغلقة. النقد المُضمر للحرب تتمظهر ملامحه في حركة الكاميرا، المتوغّلة في نقل خراب ومآسٍ وأحلام مُجهضة، بتلقائية تقوم على حكي الصورة، وتُظهر سلاسة السيناريو وقدرة الإخراج على دفعه إلى أقصى الحدود، وعلى التقاط تفاصيل صغيرة من الحياة اليومية لعلي، الحالم بالاشتغال في الهندسة، فإذا به يقع في حربٍ مُفترسة يرفضها، لكنّه مُجبر عليها لتحسين وضعه الاجتماعي.

بمُناسبة عرضه مؤخّراً على الموقع الإلكتروني لـ"الهيئة الملكية الأردنية للأفلام"، التقتها "العربي الجديد" في هذا الحوار:

 

(*) كيف تلقّيتِ خبر نيل "في المنتصف" منحة من "مؤسّسة الدوحة للأفلام"؟ ما الذي يُمكن أن تُضيفه فنياً منح كهذه، وكغيرها من برامج دعم مُخصّصة بالصناعة السينمائية العربية؟

قبل الإجابة، أتوقّف قليلاً عند إقامتي في الدوحة. بعد 6 أشهر على بداية الحرب في اليمن عام 2015، أتتني فرصة السفر إلى قطر على أمل بداية جديدة. عندما تُجْتَثّ جذورك، وتؤخذ إلى تربة جديدة، يصعب التأقلم. اضطررت إلى إعادة بناء نفسي. في اليمن، لا قدرة لي على دراسة الإعلام، لضعف التعليم وندرة فرص العمل.

عملي مبنيّ على تجارب وتعلّم ذاتي. تخصّصت بالصيدلة لإرضاء والدي، الذي خيّرني بين الطبّ والهندسة، أو "سأضيّع حياتي". لا ألومه أبداً. في العالم العربي، التفكير نفسه راسخٌ في الأغلبية. في قطر، مُنحت فرصة مواصلة تعليمي. هذه المرة، الجامعة أميركية، "نورثويسترن". تخصّصت بالصحافة والتواصل الاستراتيجي. بعد جهد، تخرّجت بامتياز. في دراستي، شاركت في ورشة عمل خاصّة بالأفلام الوثائقية، في "مؤسّسة الدوحة للأفلام"، صيف 2018، ثمرتها أول وثائقي لي بعنوان "مجرد ذكرى". بفضله، بدأت مشواري في صنع الأفلام الوثائقية. إنّه رحلة شخصية للشفاء من آثار الحرب النفسية، التي حملتها معي من اليمن. غرضي من صنعه أنْ يكون وسيلتي للتعامل مع عامين من الكوابيس والتراكمات المثقلة بعقدة الناجي، كوني الوحيدة بين أهلي التي سافرت خارج اليمن. المهمّ في الفيلم كامنٌ في التعامل مع الخسارة، خسارة وطن وطفل وثقل البعد عن الأهل، وكل ما هو قريب وعزيز.

 

(*) كيف تمّ الاعتراف بك كمُخرجة سينمائية بعد عودتك إلى اليمن؟

لم أدرك مدى قيمة سرد الأفلام الشخصية إلا بعد العرض الأول لـ"مجرد ذكرى" في "مهرجان أجيال السينمائي". ردّ الفعل المُحبِّ، والفوز بجائزة أفضل فيلم وثائقي (2018)، أعطياني دفعة قوية لأستمرّ. "مجرد ذكرى" أول فيلم يمني يشارك في المهرجان منذ انطلاقه، وأول فيلم يمني يفوز.

من هنا، وجدت صوتي، الذي أستطيع به إيصال واقع يمني غير الذي يراه العالم في وسائل الإعلام التقليدية، وغير ما هو متداول يومياً في نشرات الأخبار. نحن أكثر من قصص وباء وموت وقتل. نحن بشر، كبقية البشر. لدينا أحلام وطموحات، ونحتاج إلى الأمل. نحن فقط نمرّ في ظروفٍ مؤقّتة، تحرمنا من أبسط مقوّمات الحياة الكريمة. لكننا لسنا كما يصفوننا ويحددوننا في صناديقهم السوداء. لسنا حرباً لامتناهية، ولا قضية يتسوّل باسمها العالم كلّما شحت موارده، باسم "دعم إنساني" وشعارات و"هاشتاغات" صُوَر أطفال على شفير الموت من شدّة الجوع. كلّ صور الحرب لا تؤطرنا كبشر. بسببها، أصبحنا للأجنبي مجرد حرب أخرى في منطقة الشرق الأوسط، التي نحن فيها لأننا بنظرهم لسنا بشراً نستحقّ حياة كريمة.

واقعٌ مؤلم، لكنه ليس جديداً.

 

(*) هل أفهم من كلامك أنّه على هذا الأساس اخترقت عالم السينما؟

الإجابة ليست سهلة. السينما لغة عالمية. عبرها، وجدت منفذاً لتهريب قصتي وقصة أهلي ووطني إلى العالم الخارجي، محاوِلةً كسر الصورة النمطية عن اليمن واليمنيين. لولا خروجي من اليمن، وحصولي على دعمٍ، والعثور على طريقة لمساعدة من لم يستطع الخروج، لما استطعت التحاور معك الآن. لا توجد سينما في اليمن. لا ثقافة سينمائية ولا صالات عرض ولا جامعات ومعاهد ولا مراكز. لا دعم لليمنيين يساعدهم على إيصال أصواتهم في السينما. "الرجل الأبيض" يحتكر سرد قصصنا، هو قادمٌ لإنقاذنا وعرض مآسينا أمام العالم. يختار الموضوع الذي يدعمه، ويُعرض الفيلم في مهرجان عالمي للتخفيف من إحساسه بالذنب إزاء تجاهل كل ما هو بعيد عنه وعن اهتماماته، بما في ذلك 30 مليون إنسان في رقعة جغرافية تسمى اليمن.

بعد "مجرد ذكرى"، شعرتُ بشغف السينما، وقرّرت ألاّ أتوقّف. لا بُدّ من سرد قصص أكثر. لا بُدّ من العودة إلى وطني والاستمرار بما بدأت به. يومها، كنتُ لا أزال طالبة. زوجي وأنا نعمل بدوام جزئي، فكان أنْ حصلنا على منحة لإنجاز الفيلم الثاني، "في المنتصف". الحرب والمشاكل السياسية في المنطقة حالت دون التنقّل إلى أبعد الحدود. السينما لا تزال تحتاج إلى دعم أكثر في الخليج والوطن العربي. كلّ خطوة واجهنا فيها عقبات، إلى آخر لحظة من العمل. بحكم انعدام وجود نقابة لحماية صنّاع الأفلام، وامتناع كثيرين عن تأمين معدات التصوير، اضطررتُ إلى توقيع وثيقة "إخلاء مسؤولية"، في حال توفّيت في سفري للعمل.

في وطني، حمل السلاح عاديّ، بينما حمل الكاميرا يقتل.

 

(*) يبقى اليمن من البلدان المحافظة التي تُراهن أكثر على تاريخها وعاداتها وتقاليدها. هذا صعبٌ بالنسبة إلى فتاة تُريد دراسة الإخراج السينمائي. أهذا سبب جعلك تنجزين الماجستير في الدوحة؟ ثم لماذا المتاحف لا السينما الوثائقية؟

لم أوفّق في دراسة الإخراج السينمائي بعد. لم تتح لي الفرصة. بسبب عدم قدرتي على العودة إلى اليمن، لأنّ فرص حياة أفضل غير موجودة، اخترتُ دراسة ما يتكامل مع الصحافة وصنع الأفلام. اخترتُ إضافة لقب "قيّمة فنية". أنا أحبّ كلّ ما يتعلق بالسرد البصري ـ السمعي، والعمل في المتاحف والمعارض مُكمّل شبه طبيعي لمهاراتي السابقة. جزءٌ من عملي الطالبي في عامين في جامعة "نورثويسترن" كامنٌ في البحث وإعداد المعارض في "مجلس الإعلام في جامعة نورثويتسرن في قطر"، الذي يعتبر أول متحف رقمي في المنطقة.

 

(*) بدأتِ السينما عام 2011، خلال "الربيع العربي". إلى أيّ حدّ يُمكن الحديث عن مدى تأثير هذا الربيع في السينما العربيّة ومُتخيّلها، وعلاقة ذلك بـ"في المنتصف"؟

شكّل "الربيع العربي" تربة خصبة للتوثيق وسرد القصص من الميادين. لأهمية الحدث تاريخياً، كلّ من استطاع التوثيق وصل إلى مهرجانات لم تكن تهتمّ بأيّ دولة من تلك الدول سابقاً، ولا بصنّاع الأفلام العرب. لم تكن قصصنا مثيرة للاهتمام قبل طرحنا مفاهيم، أشعرت الدول العظمى بأنّنا بدأنا نرتقي إليها، باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي لنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط.

العلاقة بالفيلم مباشرة. علي أحد الشباب الحالمين. ظنّ أنّ ثورة 2011 ستحقّق المساواة بين الجميع، بعد سنين من الظلم. لكنْ، للأسف، الأحلام دُمّرت، والحروب توالت، وأنْهِك الناس، وأصبح العيش كلّ ما يتمنونه. عيشٌ كريم فقط: "خلّونا نعيش. ما عاد نشتيش. كفاية بهذلة"، كما قال علي.

 

 

(*) ماذا عن اليمن؟ أيّ تحوّل فني ترسمينه حالياً للسينما اليمنية في العلاقة بالربيع العربي أو بالحرب؟ شهدنا قبل أسابيع الذكرى العاشرة للربيع. ماذا تغيّر سينمائياً في اليمن؟ ما الذي بقي على حاله؟

ماذا عن اليمن؟ سؤال صعب ومؤلم. كلمة "الربيع" التي تصف الثورات صعبة ومؤلمة أيضاً. ربيعنا لم يزهر. كلّ ما حدث منذ عام 2011، وما تلاه من حرب منذ عام 2015، ثم كورونا وتغيير دونالد ترامب، كلّ شيء مترابط، لا نستطيع التهرّب منه وإنْ حاولنا.

سينمائياً، لا نزال في البداية. اليمن متأخّر جداً سينمائياً. أحاول ردم الفجوة. أحاول إيجاد فرص من الخارج لصنّاع الأفلام اليمنيين في الداخل، تدريباً وإرشاداً ومساعدة على التعلم. احاول وصلهم بأكاديميات عالمية في الخارج لتعريفهم بماهية الفيلم السينمائي، وكيفية صنعه، واعتناق الكاميرا كمهنة ومصدر دخل، عوضاً عن السلاح والانجراف في دوامة الحرب.

 

(*) في "في المُنتصف"، تُرَتّقين ما انفتق من يوميات الحرب ومآسيها، بسرد حكاية شاب لم يتجاوز 30 عاماً، يجد نفسه مجبراً على الانخراط في الحرب، كي لا يبقى عاطلاً من العمل. لماذا الرهان على هذه الصورة، الواضحة في الفيلم، والمُتعلّقة بتكسير نمطية الصورة عن اليمن وقصصها وحكاياتها؟

الشباب اليمنيّون فئة مهمّشون في سرد القصص عن بلدهم. علي يمثّل آلاف الشباب، حاملي الشهادات الجامعية، وغير القادرين على العمل في مجالات اختصاصاتهم. علي مهندس مدني. حلمه البناء والإعمار. لكنْ، لا بناء ولا إعمار. الحلّ؟ انضمامه إلى الحرب التي تغذّي نفسها بتوفير دخل لكلّ من ينضم إليها. هذا أحد أهم أسباب استمرارية الحرب وقدرتها على جذب الجميع إليها، فتصبح مصدر عيشهم. هذا زاد من عدد الهاربين من المدارس، وانضمام أطفال في العاشرة من أعمارهم الى جبهات القتال.

 

(*) لا تهمّك الحرب بشكل مُباشر وفجّ. تُركّزين سيكولوجياً على علي وأحلامه المُجهضة في الحرب.

لا أتفّق معك بأنّ الحرب لا تهمّني. الحرب تبقى في الخلفية. لكنّي أرفض أنْ تغطّي على علي. الحرب أخذت كلّ شيء. يكفيها ما أخذت.

أجمل التعليقات على الفيلم أتت من لجنة تحكيم "مهرجان الفيلم العربي في تورنتو": نقل الفيلم صورة أخرى للرجل الشرقيّ. نقل ما سموه "الرجولة الحنونة". الرجل الذي يحبّ، المثقف، الواعي. هذا نقيض صورة نمطية مُتعارَف عليها في الإعلام الغربي وفي هوليوود. صورة لا تمثّل أبي ولا أخي ولا زوجي، لكنّها الوحيدة التي شكّلت ماهية الرجل العربي بالنسبة إلى العالم. لذا، مهمّ ربط علي بقصّة الخاتم، وقصّة حبه، فالحبّ لغة عالمية.

بعد افتتان المُشاهد بكاريزما علي، يكتشف أنّه عسكري، ولن يستطيع النظر إليه بدونيّة، بل سيرتبط معه ويتابع بقية القصة ليفهم ما الذي أدّى بشخص مثله إلى حالٍ كهذه.

 

(*) هل تستطيع الصورة الوثائقية رصد الأشياء الحميمية المُتوارية في نفوس مُهدّمة وبيئات منكوبة، أكثر من الصورة الروائية؟ ما الاختلاف بين الصورتين، لو أنّ "في المنتصف" روائيٌّ لا وثائقيّ؟

نعم تستطيع. الفرق بين الوثائقي والروائي، أنّ الأول مبنيّ على الحقيقة، لكنّ الأدوات يُمكن أنْ تكون مشتركة بين الإثنين في سرد القصص. هناك أيضاً عامل مهم: أخلاقية المهنة، التي للأسف لا تُدَّرس بشكل كافٍ. في الوثائقي، يتمّ التعامل مع قصص حقيقية، وأناس حقيقيين. العمل يتطلّب ثقة متبادلة واحتراماً، وسرداً قصصياً مع الشخصيّ لا عليه.

أكثر ما تعلّمته من عملي في الوثائقيات، احتواء الفوضى. كلّ شيء في تغيّر دائم. عملي أنْ أتأقلم وأتابع إلى أنْ تتشكّل القصة كاملة. هناك مزايا أكثر في الروائيّ: بناء عالم الشخصيات، والتحكّم الكامل بمجريات الأحداث. كلّ نمط مهمّ بما يتناسب مع القصّة ويخدمها. بالنسبة إلى "في المنتصف"، القالب وثائقي.

 

(*) ماذا عن الشخصيات؟ كيف اخترتها؟ ما الذي يُمثّله علي اليوم، بعد أن خفّت أوجاع الحرب؟ أيّ علاقة جمالية يُمكن نسجها بين "مجرّد ذكرى" و"في المُنتصف"؟

اليمن بلد محافظ. القدرة على التصوير في البيوت مع النساء شبه مستحيلة. أهم شرط القدرة على التصوير مع الأهل، وهذا سمحوا لنا به مع علي وأسرته. بعض مشاهدي الفيلم في "أيام قرطاج السينمائية" انتقد كيفية تصوير أم علي وهي مغطاة كلّياً، داخل البيت. هؤلاء لا يعرفون طبيعة البلد وثقافته، التي تُحتّم علينا احترام رغبات من وثق بنا وأدخلنا داره.

المُشاهد يتعرّف على البلد وعادات أبنائه وقصصهم ووجهات نظرهم، لا ما يُحبّ أن يراه فقط، أو ما يتناسب مع رؤية سابقة محفورة في ذهنه. السينما وسيلة للحوار وتبادل الثقافات. يتمثل جمالها في اختلافها لا باستنساخها. لكلّ فيلم روح خاصة به. بعد أنْ يكتمل، يعيش حياته.

هنا أيضاً أختلف معك: الحرب لم تخفّ أوجاعها، لكنّ الناس اعتادوها، وتأقلموا معها ويُعيشونها. محزنٌ هذا، لكنّه ضروريّ للبقاء.

العلاقة بين الفيلمين كامنةٌ في معرفتي صعوبة تسليط الكاميرا على شخصية لتبوح بأسرارها. أعرف ما هو الألم. أعرف أهمية مشاركة الألم للشفاء، الفردي والجماعي. نحن اليمنيّين نحتاج إلى سرد قصصنا وأحلامنا وأوجاعنا كي نُشفى ونقوم أقوى من قبل، ونعيد البناء مجدّداً.

المساهمون