محمود الطوخي... إحياء التلاوة المصرية القديمة

08 ابريل 2022
أمّ بالمصلّين في عدد من المساجد المصرية المهمة (يوتيوب)
+ الخط -

وسط حالة التراجع العامة التي يعيشها فن تلاوة القرآن في مصر منذ عدة عقود، يبرز عدد محدود من القراء المتميزين، المتمسكين بأساليب التلاوة الموروثة عن كبار القراء الذين صاغوا بأصواتهم معالم المدرسة القرآنية المصرية. ومن بين أبرز الأسماء، يأتي اسم الشيخ محمود الطوخي الذي بزغ نجمه خلال العقدين الماضيين، واشتهر في مصر وخارجها بصوت يتميز بالقوة والرنين، مع قدرة كبيرة على استلهام طرائق عدد ليس قليلاً من أعلام القراء، وفي مقدمتهم الشيخ محمد رفعت الذي اعتبر دائماً حالة عصية على المحاكاة.

يمثل محمود الطوخي نموذجاً نادراً بين محترفي تلاوة القرآن في مصر. تخرجه من كلية الألسن، مكنه من إجادة عدة لغات. ولسنوات، كانت الترجمة مهنته الأساسية، لكن هوايته الأثيرة لم تفارقه لحظة واحدة. في الكلية، كان يقرأ لزملائه، فيلتفون حوله منصتين مشجعين، وبعد التخرج، التحق بالقوات المسلحة لأداء الخدمة العسكرية ضابطاً احتياطياً.

يقول، في حديث إلى "العربي الجديد": "في حجرتي الصغيرة في مركز التدريب، قرأت القرآن بصوت جهوري وصل إلى كل زملائي، فإذا بهم يهللون استحساناً، ثم خرجوا من أماكن مبيتهم، وتجمعوا حولي يستمعون وهم منسجمون من تلاوتي. أعجب بي القائد، ثم جاءت حفلة التخرج، وفوجئت بمذيع الحفل ينادي على اسمي لافتتاح الفعالية بتلاوة القرآن".

"الضابط المذكور يجيد تلاوة القرآن". بهذه العبارة التي كُتبت في ملفه العسكري، انتقل ضابط الاحتياط محمود الطوخي لأداء خدمته العسكرية في الإسماعيلية. انتظم القارئ "الملازم" بتلاوة القرآن، وسط ترحيب وحفاوة بالغين من قياداته وزملائه، ثم اتسعت شهرته، فأصبح يستدعى إلى القراءة في مسجد قيادة الجيش الثاني. بعد أداء الخدمة العسكرية، سافر الشيخ الطوخي ليعمل مترجماً في السعودية، لنحو عشر سنوات، ولم يرجع إلا مع نهاية عام 2000، ليعمل قارئاً لجامع الفتح الشهير في ميدان رمسيس، وهو من أكثر مساجد القاهرة ازدحاماً؛ إذ يؤمه الآلاف يومياً بسبب موقعه المهم.

يعتبر الطوخي أن تعيينه قارئاً لجامع الفتح هو أول انطلاقته الكبيرة في ميدان التلاوة وظهور اسمه وسط مشاهير القراء. يقول: "كانت تلاوتي وأذاني في مسجد الفتح سبباً لمعرفة الجماهير بي، وتعرفت بسببه على كثير من الوزراء والعلماء والقراء، إلى جانب محافظ القاهرة. كانوا يطلبون مني أذان الشيخ رفعت".

كانت قدرة الشيخ محمود الطوخي على محاكاة طريقة الشيخ محمد رفعت سبباً رئيساً للفت الانتباه إليه. في بداية عام 2007، اتصل به معدو أحد البرامج المسائية في التلفزيون المصري، وطلبوا منه حضور أمسية في مسجد الحسين، يبثها التلفزيون على الهواء. يوضح الطوخي: "قرأت القرآن وأديت الأذان بطريقة الشيخ رفعت، وانتهت الحلقة. لم تنقطع الاتصالات حتى الفجر، من داخل مصر وخارجها. وكانت هذه التلاوة سبباً لصدور قرار باعتمادي قارئاً في الإذاعة والتلفزيون".

أثار الصعود السريع للشيخ الطوخي حفيظة كثير من القراء، فشنوا ضده حملة كبيرة، وتحديداً ضد طريقة اعتماده في الإذاعة، باعتبارها قراراً فوقياً فرض على لجنة اختبار القراء، المنوط بها تحديد من يصلح للتلاوة إذاعياً، ورفض من لا يصلح. ويوضح الطوخي بعض ما حدث: "اتصل بي شيخ القراء أبو العينين شعيشع، وكان عضواً في لجنة اختبار القراء، وأخبرني أن اللجنة مستنفرة ضدي، وأن حجتهم أنني مقلد لرفعت، فأكدت له أن لي طريقتي الخاصة، ولست مجرد مقلد. اختبرتني اللجنة. وقرأت بطريقتي. لم أقترب من طريقة رفعت. لكن أعضاءها أصروا على رفضي. وكانت حجتهم التي كتبوها: يقلد رفعت".

أثار الصعود السريع للشيخ الطوخي حفيظة كثير من القراء، فشنوا ضده حملة كبيرة، وتحديداً ضد طريقة اعتماده في الإذاعة

امتدت أزمة الشيخ الطوخي مع لجنة اختبار القراء إلى الصحافة، فنشرت صحيفة "الجمهورية" موضوعاً عنوانه "الطوخي مفروضاً على القراء". ذهب القارئ الصاعد إلى مقر الصحيفة محتجاً، وقابل رئيس التحرير الذي استدعى الصحافي الذي حرر الموضوع: "أخذني الصحافي إلى مكتبه، فناديت بصوت مرتفع بين زملائه: اسمعوني.. سأقرأ عشر دقائق والحكم لكم. وبالفعل، قرأت أمام أكثر من 40 صحافياً وأعجبوا بي كثيراً، وفي اليوم التالي فوجئت أن نفس الصحافي نشر عني مقالاً يشيد بصوتي وأدائي".

يشير الطوخي إلى أن رئيسة الإذاعة حينها تعاطفت معه بسبب ما يلقاه من تعنت، واعتبرت أن موقف لجنة اختبار القراء ليس إلا "حالة عناد": "بعد محاولات منها، حدّد لي رئيس اللجنة موعدا سريعاً. ذهبت، واختبروني، وقرروا تأجيلي ستة أشهر، بحجة تقليد رفعت. أصابني يأس شديد، فسافرت إلى الولايات المتحدة، ولم أرجع إلا بعد ثورة يناير/كانون الثاني 2011. واستدعيت للاختبار أمام اللجنة المكونة من 14 عضواً، فقبلوني، واعتمدت إذاعياً".

إذن، كانت قدرة الشيخ الطوخي على محاكاة الشيخ محمد رفعت في التلاوة والأذان سبباً للشهرة ولإتاحة الفرص أمامه. لكنها كانت -في الوقت نفسه- الحجة التي استمسكت بها لجنة اختبار القراء لتأخير اعتماده إذاعياً. يمتلك الطوخي صوتاً قوياً عريضاً، كما يمتلك قدرة كبيرة على تقمص طرق أداء القراء الكبار. يرى كثير من جمهور المستمعين أنه يُذكرهم بـ"الزمن الجميل"، وأنه يحافظ على التقاليد النغمية والأدائية التي ميزت دولة التلاوة المصرية.

لكن الرجل لم يسلم من الانتقاد، والاتهام بأنه لا يملك شخصية أدائية مستقلة، وأنه يقلد السابقين في معظم الليالي التي يحييها. وقد رد الطوخي على هذا الانتقاد قائلاً: "لا أنكر بأي حال تأثري بالأسلوب القديم، وبالفعل أحاكي كل القراء القدامى. وبقدر ما أعطتني هذه القدرة إعجاب الناس واستحسانهم، إلا أنها ظلمتني، وبعض المهتمين اعتبرني خليطاً ليس لي شخصية، وهذا غير صحيح. فأنا أعتبرالقارئ كالباحث، والقراء القدامى بمثابة مراجع لهذا الباحث".

يضيف: "لي طريقتي الخاصة، لكن الاستمساك بأساليب القراء الأوائل أمر ضروري جداً، كي يكون القارئ الجديد متشبعاً بمعالم التلاوة المصرية تشبعاً كاملاً، قبل أن ينشغل بالبحث عن أسلوب خاص. ومع الأسف، فأكثر قراء هذا الجيل صلتهم مقطوعة بالقدماء".

لي طريقتي الخاصة، لكن الاستمساك بأساليب القراء الأوائل أمر ضروري جداً، كي يكون القارئ الجديد متشبعاً بمعالم التلاوة المصرية تشبعاً كاملاً، قبل أن ينشغل بالبحث عن أسلوب خاص

حفظ الشيخ محمود الطوخي القرآن في قريته سنديون في محافظة القليوبية. ومن خلال تعلقه بجهاز الراديو، اكتشف حبه للتلاوة مبكراً. وعبر الراديو، تأثر بأصوات محمد رفعت وعبد الفتاح الشعشاعي ومصطفى إسماعيل ومحمد الصيفي وكامل يوسف البهتيمي ومحمد صديق المنشاوي ومحمود علي البنا. يوضح: "كنت أقلدهم جميعاً، وكان أخي الأكبر أيضا من هواة القراءة، فشجعني لما اكتشف موهبتي".

يرى الطوخي أن القراء المتميزين اليوم صاروا قلة نادرة، وأن فن التلاوة ما زال يتعثر في أزمته التي ظهرت مع قراء السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي. يُرجع الطوخي أسباب هذه الأزمة إلى جانبين؛ الأول أنه لا توجد جهة لاكتشاف المواهب في القرى والنجوع، ورعايتها بالصقل والتدريب. والثاني: مصورو الحفلات الذين صاروا سماسرة تلاوة. وأيضا "الألتراس" الذي يتكون بالأجر أو بالعصبية، فكثير من قراء اليوم يأتي بجمهوره، وهذا الجمهور يُلقي على القارئ ألقاب التفخيم الوهمية.

بعد انطلاق صوته عبر الإذاعة المصرية، تلقى الشيخ الطوخي دعوات متتالية لإحياء محافل قرآنية، ولا سيما في شهر رمضان والمناسبات الدينية. زار تركيا عشرات المرات. يقول: "أذهب وأعود بخمس دعوات. ويخصصون لي الأذان الموحد على مستوى إسطنبول، وكذلك في أنقرة وسائر المدن. يطلبونني في سائر المناسبات القومية والدينية، الوزراء والمحافظون ينافسون في تنظيم المحافل القرآنية". يتعجب الطوخي من عشق الأتراك لمدرسة التلاوة المصرية عموماً، وللشيخ مصطفى إسماعيل على وجه الخصوص.

كما زار الولايات المتحدة، وباكستان، وبنغلادش، والهند، وماليزيا وإندونيسيا، وتنزانيا التي زارها ضيفاً على رئيس الدولة، للتحكيم في المسابقة الدولية للقرآن، كما زار دول الخليج، وقرغيزيا، وجنوب أفريقيا، مؤكداً أن القارئ المصري الملتزم بالنمط الموروث ما زال مطلباً لأكثر الشعوب العربية والإسلامية حول العالم.

يرى الشيخ محمود الطوخي أن التكوين الموسيقي للقارئ، يكون فقط من خلال الاستماع إلى نفائس التسجيلات لكبار القراء، لأن هذا هو الطريق الصحيح لتحصيل ثوابت الهوية المصرية في التلاوة، فمن خلال الاستماع المستمر والمنتبه، يتشرب القارئ أساليب الأداء الرصين، ويتعلم إحكام "القفلة"، ويتمكن من السيطرة على المسار النغمي للتلاوة، وتوظيف المقامات العربية لإبراز معاني القرآن أولاً، ولإمتاع جماهير المستمعين ثانياً. وعلى الرغم من إقراره بتراجع فن التلاوة في السنوات الماضية، فإن الرجل يصر أن الأزمة ليست قدراً، وأن التدهور حالة مؤقتة يمكن تجاوزها بالرعاية والحرص على القواعد التي حكمت هذا الفن أيام مجده وازدهاره.

المساهمون