محمد الفيومي ودرس الإنشاد الغائب

01 ابريل 2024
ليست له صور فوتوغرافية سوى لقطة من ظهوره في عمل سينمائي (Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- الشيخ محمد الفيومي، من أبرز أعلام الإنشاد الديني المصري في القرن العشرين، يتميز بأسلوب فريد يجمع بين العراقة والكلاسيكية، مستهدفًا جمهورًا ذو ذوق رفيع.
- وُلد في مارس 1905 وتلقى تعليمه الفني في بيئة غنية بالمنشدين، تتلمذ على يد علي محمود وترك إرثًا غنيًا من الأعمال الإنشادية المصحوبة بالآلات الموسيقية.
- توفي في 10 إبريل 1988، ورغم قلة التقدير الإعلامي له، يظل تراثه مصدر إلهام للأجيال الجديدة، مقدمًا دروسًا في أهمية التأسيس الفني القوي والأداء المتقن.

حين يدخل الباحث في تاريخ الإنشاد الديني المصري إلى الدائرة الضيقة، المقتصرة على الأعلام من أصحاب الأصوات التأسيسية التي شادت صرح هذا الفن في القرن العشرين، فإنه لا ريب، سيجد الشيخ محمد الفيومي ضمن أهم ثلاثة أو أربعة أسماء على الأكثر، لا يذكر إلا مقروناً بعلي محمود أو طه الفشني. لكن إدراك مكانة الرجل في عالم الإنشاد بقي محصوراً في جماهير ضيقة يمكن تصنيف منتسبيها بأنهم يمثلون نخبة النخبة بين المستمعين والهواة.

يقدم محمد الفيومي فنّاً ذا طبيعة استعلائية، من خلال صوت استعلائي يبذل عطاءه حصرياً لأصحاب الآذان المدربة والمتمرسة طويلاً، حتى يمكنها التقاط جماليات نمط من الأداء يكاد يحرص على إخفاء صنعته، ويتفنن في هذا الإخفاء، ويبتعد عن كل أساليب الإبهار السطحي الخفيف، الذي تحبه قطاعات أوسع من الجماهير.

يؤدي محمد الفيومي القصائد والتواشيح بأسلوب بالغ الرصانة، ويصيغ جمله اللحنية بمقادير متوازنة من العُرب والزخارف، التي تأتي طبيعية بلا تكلف، وبصوته وأدائه كوّن لنفسه أسلوباً متفرّداً، يسير في خط متواز وبندّية كاملة مع أعلام عصره، بعد أن جمع صوته كل ما يمكن أن تختزنه الأذن من تعبير عن العتق والقدم والرسو والثقل النغمي، وامتاز أداؤه بكل معاني الوراثة والكلاسيكية واتصال السند الفني.

في المعلومات الأولية الشائعة، فإن الشيخ محمد الفيومي ولد في شهر مارس/آذار عام 1905، في القاهرة، وتحديداً في حي الجمالية العريق، الذي ضم في وقت ما أكبر تجمع للقراء والمنشدين، كما ضم مسجد الإمام الحسين، الذي يمثّل أهم ساحة لعرض تلك الفنون الدينية التي يقدمها كبار الشيوخ. إذاً، تضافر الزمان والمكان لخدمة التكوين الفني للفيومي، فكل ما يلزم من استماع وتدريب وصقل قريب متاح، لا يحتاج إلا إلى نفس متطلعة وأذن لاقطة، تسمع وتختزن.

وفي المعلومات الشائعة، أيضاً، أن الفيومي تتلمذ لعلي محمود، والتحق ببطانته، وهذا النوع من المعلومات المقتضبة يطرح أسئلة أكثر مما يقدم من إجابات: ما معنى "التلمذة" لشيخ منشد؟ وما الحد الأدنى للمدة التي يجب أن يصحب فيها طالب أستاذه كي نعده من تلاميذه؟ ومتى التحق محمد الفيومي ببطانة الشيخ علي؟ وهل بقي فيها إلى أن رحل إمام المنشدين؟ أم أنه تركه في حياته واستقل عنه متخذا بطانته الخاصة؟

تزداد أهمية هذه الأسئلة بسبب الحالة النقدية والتأريخية الشائعة في مصر، التي ترتب نتائج كبيرة وكلية على وقائع صغيرة وجزئية. فلو قرأ أحدهم سطراً يقول إن زكريا أحمد كان في بطانة علي محمود، لاعتبر ذلك كافياً ليحكم بكون زكريا تلميذاً لعلي، ولو مر عليه مقال يذكر أن محمد الفيومي كان في بطانة الشيخ علي، لجزم بذلك باعتباره حقيقة لا تحتمل الشك، بالرغم من أن كتاباتنا التأريخية تفرط في استخدام لفظة "كان"، فتقول "كان" فلان تلميذاً لفلان، ثم يبحث الباحث فيكتشف أن "كان" هذه التي تعطي معاني الديمومة والاستمرار والتكرار لم تكن إلا مرة واحدة عابرة. وهنا، يكون الحذر والتوقف أولى من القبول والتورط.

وما أشد ندرة المعلومات عن الشيخ محمد الفيومي، فلا يجد الباحث في سيرته ومسيرته ترجمة وافية، ولا موضوعاً صحافياً مفيداً، ليبقى تراثه المسجل أهم مصادر التأريخ لسيرته الفنية المهمة. وتكشف النظرة الأولية السريعة في هذا التراث عن أن الرجل جمع بين الإنشاد الديني والغناء الدنيوي، وأنه غنى بعض المواويل والأدوار، التي أداها باقتدار وتمكن مذهلين، وبقدرة كبيرة على حشد أفانين الإطراب، ومنها موال "لك يا زمان العجب"، و"يا قلبي ما حد قاسى اللي أنت بتقاسيه"، و"علمتني قولة الآه"، ودور "بستان زمانك" الشهير لمحمد عثمان، وأيضاً دور "عاهدت قلبي"، من ألحان صديقه داود حسني، الذي كان يحثه على الاقتصار على الإنشاد الديني أو على الأقل الاهتمام به أكثر من الغناء الدنيوي، الذي بقي هامشياً في مسيرة الشيخ.

الفيومي هو أحد أكابر أصحاب "البطانة"، أو الإنشاد مع جوقة مدربة حافظة، وتشهد تسجيلاته بأنه صاحِب قدم راسخة في هذا اللون الذي انقرض تماماً لأسباب فنية واجتماعية وتقنية. ويمكن أن نمثل لإنشاد الرجل مع بطانته، بموشحات "يا رشيق القوام"، أو أمدح المكمل، أو "بدا بدر سعد" أو قصائد: "نسب شريف طاهر"، أو "أنا من تسمع عنه وترى"، أو "هتف الطير بتحنان الصبا". تتبدى بطانة الفيومي في غاية القوة والتماسك، لا تقل بأي حال عن بطانة علي محمود أو طه الفشني، كما لم يقصر الرجل عن الشيخين في براعة التسليم والتسلم.

لكن منجز الفيومي الأكبر الذي لا يضارعه فيه منشد هو ثروته الكبيرة من الأعمال الإنشادية المصحوبة بالآلات الموسيقية. اهتم الرجل بهذا الجانب اهتماماً كبيراً، وأدى عشرات الأناشيد والابتهالات والقصائد بكلمات أكثرها من عيون التراث لكبار الشعراء في عصور مختلفة، وبأنغام كبار الملحنين الشهيرين بقدرتهم على التعامل مع النصوص الدينية، من أمثال الشيخ علي محمود والشيخ زكريا أحمد. وفي مقدمة من لحنوا للفيومي، يبرز اسم الشيخ مرسي الحريري، الذي نسج عدداً من أهم القصائد والموشحات التي أداها الشيخ ومنها: "نور النبي على العوالم أسفرا"، و"يا خير مبعوث لأكرم أمة"، و"يا بارئ الكون"، و"أشجاك ذكر معاهد"، و"نعمة من جلائل الآلاء"، و"أغر وضاح الجبين".

ولا ريب أن كبار الملحنين حرصوا على تقديم الألحان للشيخ الفيومي، فصاغ له سيد مكاوي: "إنني آمنت بالله"، و"لك الحمد مقروناً بشكرك دائماً"، و"تعالى الله أولاك المعالي"، و"لك الحمد يا ذا الجود". ومن ألحان أحمد صدقي للفيومي، عدة أعمال من أجملها قصيدة الإمام البرعي "غنى الحمام على الربا مترنماً"، و"أنت حصني من العوادي"، و"أمدح نبينا". ومن ألحان محمود كامل، غنى الشيخ قصيدة الشاعر أحمد مخيمر "رباه أنت الواحد الأحد"، وأنشد بألحان محمد صادق "محمد المبعوث من خالق الورى"، كما أنشد بألحان الشيخ سيد موسى أبيات الإمام البرعي "وجد تحرك في قلبي فما سكنا"، وللبرعي أيضاً أنشد "تبارك ربنا في علاه" من ألحان محمد إسماعيل، وغنى من ألحان صبحي أمين "يا إلهي وناصري ومعيني".

كما يكشف مسرد أعمال الرجل أن رياض السنباطي قدم له عملاً واحداً على الأقل، هو "إيه يا نفس من الله أنيبي" من كلمات طاهر زمخشري. من اللافت أن الشيخ كان كثيراً ما يقدم صيغتين لنفس اللحن، واحدة بالمصاحبة الآلية، وأخرى من دونها. ولعل المثال الأبرز والأشهر لهذا النمط هو توشيح "أمدح المكمل"، من نظم وألحان الشيخ إسماعيل سكر.

ما سبق ليس إلا مجرد أمثلة، وإلا فرصيد الفيومي من الإنشاد المصحوب بالعزف الآلي كبير جداً، وما زال كثير منه مفقود، أو لم ينزل من فوق أرفف التخزين. في حوار إذاعي مسجل، جزم المنشد الشهير نصر الدين طوبار بأن الفيومي هو أفضل من قدم الإنشاد الديني المصحوب بالعزف الآلي.

اشترك الفيومي بإنشاده في فيلمين سينمائيين على الأقل، وظهر فيهما مع بطانته؛ الأول، فيلم "عزيزة"، من إخراج حسين فوزي عام 1954، والثاني، فيلم "رصيف نمرة خمسة"، من إخراج نيازي مصطفى، عام 1956. وهذا الظهور السنيمائي على قصره، كان لسنوات طويلة وسيلة المهتمين لمعرفة صورة الفيومي، الذي بقي لعقود من دون أن تظهر له صورة فوتوغرافية، إلا تلك المأخوذة من مشاهده السينمائية.

كثيراً ما استعانت السينما المصرية بأصوات الشيوخ، في تلاوة أو إنشاد أو أذان، لكن دائماً ما كان الأمر يقتصر على الاستعانة بمقاطع صوتية من دون أن يظهر الشيخ مشاركاً بنفسه في العمل، وبقيت الاستثناءات نادرة، وفي مقدمتها الاشتراك السينمائي للقارئ الشيخ أبو العينين شعيشع، واشتراك الشيخ محمد الفيومي منشداً مع بطانته.

إذا اجتمع اليوم عدد من طلاب الجامعة، ممن لم تكن لهم علاقة بعالم التلاوة والإنشاد ولا الاستماع إلى أي من أنماط الغناء الكلاسيكي، وأسمعناهم قصيدة "يا أيها المختار"، بصوت الشيخ طه الفشني في تسجيله الشهير، فالغالب أنها ستروق لهم، وسيعجبون كثيراً بنعومة الصوت وسينبهرون بجمال التصرفات، وإن فاتهم بعض دقائقها.

لكن هذا الإعجاب ليس مضموناً من نفس الفئة تجاه تسجيل للفيومي، لأن هؤلاء الطلاب لم يتلقوا التأهيل اللازم لاستيعاب هذا النوع من الأصوات، ولا تدربت آذانهم على تحصيل تلك الجماليات المستترة، التي يرفض صاحبها أن يعرضها بأسلوب "مباشر"، أو أن يجعلها في مستوى "الطالب المتوسط".

في 10 إبريل/نيسان عام 1988، رحل الشيخ محمد الفيومي، من دون أن يحظى بخبر في إذاعة أو سطر في صحيفة. وكما هي العادة، يميل كثير من الكتاب، عند حديثهم عن فنان أو مغن أو قارئ أو منشد، إلى أن يحكموا بأنه مظلوم، وأنه عانى الإهمال والتجاهل، لكن النظر في حجم التراث الإذاعي للفيومي وتنوعه وثرائه يقطع بأن الرجل عاش دائماً محط إعجاب وتقدير، وأن المجتمع الفني تعامل معه دائما باعتباره أستاذاً ومرجعاً علمياً لفن الإنشاد. وفي مرحلة من مراحل مسيرته، استعان به المايسترو عبد الحليم نويره لتحفيظ أعضاء الفرقة القومية الإنشاد وتدريبهم على الأساليب العالية للأداء.

ولعل جيل المنشدين الجدد بحاجة ماسة إلى استماع طويل وواع ومتكرر لتراث الشيخ محمد الفيومي، بل هم بحاجة إلى دراسة أسلوبه وفنه، ليحصلوا منه فوائد مهمة، في مقدمتها استيعاب أهمية التأسيس المتين، لا الاستعراض الصوتي، وفهم الصنعة لا تقليد المنتج، واكتساب أصول الفن، لا كثرة الزخارف، وسلامة طبقات الصوت، لا كثرة الاهتزازات ونثر العُرب في كل حرف، حتى يصل الأمر إلى ترجيف وارتعاش، لم يكن يوما من صنيع الكبار. هذه دروس مجانية، يقدمها الفيومي لمن ينصت إلى كنزه المخبوء.

المساهمون