محمد الحواجري... "غرنيكا غزة" وقد أصبحت واقعاً

27 نوفمبر 2023
في مدينة غزة (أشرف أبو عمرة/ الأناضول)
+ الخط -

شارك الفنان الفلسطيني محمد الحواجري في الدورة السابقة من معرض دوكومنتا الدولي للفنون المعاصرة في مدينة كاسل في ألمانيا، الذي نُظم العام الماضي. العمل الذي شارك فيه الحواجري كان بعنوان "غرنيكا غزة". يشير العنوان بالطبع إلى العمل الشهير للفنان الإسباني البارز بابلو بيكاسو، الذي عبّر خلاله عن مشاهد الدمار التي لحقت بقرية غرنيكا أثناء الحرب الأهلية الإسبانية في ثلاثينيات القرن الماضي. كانت هذه القرية الواقعة في الشمال الإسباني قد تعرضت للقصف من قبل الطائرات الألمانية والإيطالية لدعم القوميين الإسبان. وقد مثلت لوحة بيكاسو، التي انتهى من رسمها في عام 1937، رمزاً عالمياً لأهوال الحرب وتأثيرها المدمر على البشرية.
عملُ الفنان الفلسطيني محمد الحواجري انطلق من مضمون هذه اللوحة الشهيرة لبابلو بيكاسو، ليقدم إحالة بصرية مختلفة للمعاناة اليومية التي يعيشها الفلسطينيون في قطاع غزة المحاصر. يشمل مشروع الحواجري (غرنيكا غزة) عدداً من اللوحات التي عمل عليها بين عامي 2010 و2013. كل واحدة من هذه اللوحات التي قدمها الحواجري في هذا المشروع تستلهم مضمونها من عمل مختلف لفنان عالمي، إذ تجمع هذه اللوحات بين أجزاء من أعمال كل فنان إلى جانب مشاهد فوتوغرافية انتقاها الحواجري بعناية لمظاهر القمع التي تمارسها إسرائيل في حق سكان قطاع غزة. بين هذه الأعمال، تبرز لوحة الإعدام للإسباني فرانسيسكو دي غويا، التي استبدل خلالها الحواجري الجنود المكلفين بإعدام عدد من المتمردين الإسبان بجنود إسرائليين يصوبون بنادقهم تجاه الفلسطينيين. في عمل آخر مستلهم من لوحة النزهة لمارك شاغال، يقارب الحواجري بين الفتاة المُحلقة التي تشد الشاب إلى أعلى في لوحة شاغال برسم على الجدار العازل لفنان الغرافيتي البريطاني بانكسي.
لم يعجب العنوان ولا محتوى المشروع الذي قدمه الفنان الفلسطيني إدارة دوكومنتا وقتها، واتهموا الفنان وعمله بمعاداة السامية، فقد رأوا أن محتوى العمل يقدم صورة غير حقيقية للواقع في العالم العربي. في مشروع الحواجري، تقصف الطائرات والدبابات الإسرائيلية مواقع لمدنيين لا يظهر بينهم أي مسلح، و"هذا منافٍ للواقع"، بحسب رأي اللجنة التي قررت منع العمل من المشاركة في دوكومنتا 15.
عاد الحواجري إلى محترفه في غزة من جديد ليواصل العمل في هذه الأراضي المحاصرة التي تأبى لجنة دوكومنتا مقارنتها بغرنيكا. قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، كان الفنان الفلسطيني يمارس عمله المعتاد ويشارك رسوماته وأعماله مع أصدقائه على صفحته الشخصية على موقع فيسبوك. تمتلىء صفحة الحواجري بالأعمال المستلهمة من الحياة في غزة، وكانت آخر اللوحات التي شاركها مع أصدقائه على صفحته قبل العدوان الإسرائيلي تمثل جانباً من مشروع تصويري جديد مستلهم من سوق الغنم في غزة. صور مبهجة يغمرها اللون، ولا تخلو كذلك من الدلالات والرموز. هنا ذئب يتربص بمجموعة من الحملان، ووحش ينقض على أحدها بينما أقرانها يراقبونها وهي تؤكل.

تغيرت أولويات الفنان الفلسطيني بعد السابع من أكتوبر، فلم يعد يشارك أصدقاءه هذه الرسوم المبهجة، وتحولت صفحته إلى سجل ليوميات الحرب والإبادة. وبدلاً من صور اللوحات، يشارك الحواجري صور الدمار الذي يحيط به، ويدون مشاهداته اليومية حول المجزرة.
يصف محمد الحواجري أصوات الطائرات والتفجيرات التي تصم الآذان، والحرائق المشتعلة في كل مكان، وكيف أنه لجأ للاختباء مع عائلته في غرفة واحدة من دون علم بما يخبئه لهم القدر. مع اشتداد القصف، ينشر الفنان صوراً لأفراد عائلته في هذه الغرفة معبراً عن القلق الدائم الذي يشعر به الكبار ومشاعر الهلع التي انتابت الصغار. بعد أيام، ينشر الفنان صورة من الخارج للمبنى الذي كان يختبىء فيه هو وعائلته وقد أصبح ركاماً. 
ينعى الفنان الشهداء من أقاربه وجيرانه وأصدقائه، ويستمر في سرد يوميات الإبادة ووصف مشاهد الدمار الذي لحق بالشوارع والأحياء والقرى والمخيمات: "الليل مرعب، وأصوات الانفجارات تزلزل البيوت، الحقيقة أبشع بكثير مما تقدمه وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي... لا مكان آمناً هنا".
تحققت نبوءة الفنان الفلسطيني ومخاوفه التي عبر عنها في مشروعه "غرنيكا غزة"، وتحولت غزة إلى مساحة تمارس عليها أكثر الأفعال إجراماً في التاريخ الحديث أمام أعين العالم. غير أن إدارة دوكومنتا والعديد من المؤسسات الفنية والثقافية في الغرب لا تعترف إلا بغرنيكا بيكاسو، ولا يشعرون بهول المآسي خارج حدود حضارتهم المدعاة. تجدر الإشارة إلى أن قصف غرنيكا لم يستمر سوى ساعات قليلة، أما ضحاياها من المدنيين فقد اختلفت التقديرات حول أعدادهم. أكثر هذه التقديرات مُبالغة ذهب إلى أن ضحايا القرية الإسبانية الشهيرة لا يتجاوز ألفاً وسبعمائة ضحية، وثمة تقارير أخرى تؤكد أن ضحايا غرنيكا أقل بكثير من هذا الرقم.

المساهمون