- تعاني المجموعة من تحديات تشمل الصعوبات المالية وفقدان مكان لقائها الأولي "مانشن"، لكنها تستمر في العمل والإبداع مدفوعة بالأمل والإصرار على الاستمرار.
- تركز "بَحْ" على الاستقلالية وتقليل الاعتماد على التمويل الخارجي، مؤكدة على أهمية البقاء على قيد الحياة والتمسك بالكرامة والنضال في وجه الاحتلال والاستعمار.
"بَحْ" مفردة تحمل معنى المنع أو الإنهاء، تعود جذورها إلى اللغة المصرية القديمة، وتستخدم في يومياتنا للتعبيرعن انتهاء أمر ما أو انعدام كميّته، لا سيّما في التخاطب مع الأطفال، كشقيقتها "نْبُو" من الجذر المصري ذاته والتي تعني "الماء"، للدلالة على العطش والحاجة إلى الارتواء. إزاء ما تعيشه منطقتنا العربية اليوم من تعطُّش شديد للاستقرار الأمني والاقتصادي، وما نتج عنه من ضيق في الأفق، لا سيما أمام العاملين في مجال الفنون والثقافة، شهدت العاصمة اللبنانية ولادة تجمّع فنّي يحمل اسم "بَحْ" يهدف إلى خلق مساحة للتنسيق ما بين العاملين في مجال الفنون الأدائية، ورفيقاتها من المجالات الفنية في سياق تشاركي وتعاوني وتعلّمي، يعيد النظر في مأسسة الفن وتشكّل سوقه.
"بَح استعمار استيطاني واحتلال ورأسمالية عسكرية إسرائيلية بتسلّع الموت وجروح الفلسطينية. بَح فصل عنصري وحصار وقتل عشوائي. بَح إبادة جماعية، بح تطبيع...". هذا جزء من البيان الذي نشرته التعاونية غير الرسمية في حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي، إيذاناً بانطلاق موسمها الأول بعد الصفر من العروض في بيروت. الجزء الثاني من البيان يبدل موضعي الحرفين في كلمة "بَح"، محوّلا الإنهاء إلى حُبّ "لحركة التحرر الوطني الفلسطيني. حب لحق الشعب الفلسطيني بالمقاومة بكل أشكالها. حب لحلم الدولة الفلسطينية من البحر إلى النهر. حب لنضالات وكرامة شعوب المنطقة بوجه الاستعمار ووكلائه المحليّين... لن نتحرّر إلا معا!".
"بَح" مؤسسة من دون تقييد قانوني
هذا البيان، بجزئيه الثائر والنابض بالأمل، يُتلى مسجّلاً قبيل كل عرض من عروض "بَح" كافتتاحية وتذكير وتحفيز للحضور حول المبادئ التي قامت عليها المجموعة الفنية. "هناك حاجة إلى أن نبقى قادرين على التفكير والخيال من ناحيتنا كفنّانين وكجمهور على حد سواء، ولا سيما جمهور المسرح غير التجاري الذي يحث على التفكير"، يقول الممثّل والكاتب والمخرج المسرحي هاشم عدنان، وهو أحد الأعضاء المؤسسين في "بَح".
"ما زلنا مؤسسة حرّة من دون تقييد قانوني واضح"، يتابع المخرج الشاب، مضيفاً: "ونحن نبحث عن الإطار الرسمي الأفضل لـ"بَح" طامحين لأن نكون تعاونية رسمية". في خضمّ ما تمرّ به فلسطين ولبنان والمنطقة، اتخذّت المجموعة قراراً بالعمل على موسم العروض الحالي رغم قسوة الظروف، ويحدّثنا عدنان عن ذلك قائلاً: "جزء من أخذ القرار للعمل على الموسم هذا العام هو أن نستمر بمواجهة الحرب والاستعمار والاحتلال، إذ إن هدف تلك المنظومة الأساسي هو القضاء على الحياة في المنطقة، وليس في فلسطين وحسب. يريدون فرض الشكل الذي يرغبونه لنا من حياة، وأن يحوّلونا إلى مجرّد كومبارس في حضارتهم. من هذا المنطلق، من المهم أن نتمسّك بالحياة كما هي".
تجدر الإشارة إلى أن الشهر الماضي، وضمن عروض "بَح"، قدّم هاشم عدنان في قاعة سينما "رويال" عرضاً بعنوان "حان الموعد"، تناول فيه فكرة الانتحاري المضحّي بذاته في سبيل قضية كبرى كقضية فلسطين وجنوب لبنان في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي. مقابل فكرة التضحية، يتطرّق عدنان في العرض إلى تسويق النظام الرأسمالي فكرة البطل الذي لا يموت، مهما تعرّض إلى القتل، معطياً لعبة سوبر ماريو مثالاً: "في ماريو، يبيعنا النظام الرأسمالي وهم الانتصار في محاولة للفت انتباهنا بعيداً عن الحاجة إلى مقاومة المستعمر والمحتل".
طريقة غير هرمية
تلا "حان الموعد"، في مطلع إبريل/نيسان الحالي، عرض مسرحي للمخرج ساري مصطفى بعنوان "قسطاس". وكانت "بح" تستعد لورشة رقص بلدي مع الفنان ألكس بولكيفيتش، أُقيمت في الـ13 من الشهر الحالي، على أن يليها المزيد من العروض والفعاليات. عن أهميّة الاستمرار بتقديم الفنّ، يقول عدنان: "التوقف عن المسرح والفنون والترفيه لن يحدث الخسائر في صفوف الاحتلال، ولن يداوي المكلومين ويساعدهم"، مستلهماً الأمل من فلسطينيي قطاع غزّة قائلاً: "في غزة، وسط الإبادة يتمسك الناس بالحياة عند كل فرصة. فجزء من فكرة المقاومة للحرب الإلغائية هو أن نبقى على قيد الحياة من دون التحوّل إلى وحوش، مثل محتل الأرض."
مجموعة "بَح" تعمل بطريقة غير هرمية؛ إذ تُداور المهام والأدوار بصيغة تشاركية تطوّعية، فيتبادل أعضاء المجموعة المهام متوزّعين على خلايا ولجان عمل تهتم بشؤون مثل البرمجة، والتواصل والدعاية، والصندوق والمالية، والأرشيف، وغيرها، إضافةً إلى مجموعات عمل مؤقتة تحلّ فور انتهاء المهمة الموكلة لها.
"نعمل ضمن إطار معاصر يشبهنا"، يقول عدنان، مضيفاً: "إطار يقدّم لمجتمعنا من دون التبشير بالاشتراكية، بل يخلق نموذج عمل تعاوني يمكن للناس أن يروه وأن يلهمهم". باب الانضمام لـ"بَح" مفتوح وفق عقد اقتصادي اجتماعي شكّلته المجموعة، ويتضمن قيمها وآليات العمل وكيفية التفكير في التمويل والعلاقة مع الحركة التعاونية والعمل السياسي والعمل الفني الذي يطمحون إليه خلال المرحلة. فالعمل مع "بَح" يتطلّب التزاماً ووقتاً وجهداً، سواء من خلال التطوع في العمل أو بحضور اجتماعات المجموعة، ما يجعلها تجربة تتطلب عملا كثيرا مقابل مردود مالي متواضع.
هذا المردود، بحسب عدنان، يأتي عند العمل على مشروع معيّن كعرض مسرحي، إذ يحصل كلّ من الأعضاء على أجر من مدخول العرض أو من التمويلات القليلة جداً التي تمكّنوا من الحصول عليها، وهذه واحدة من تحدّيات تأسيس المجموعة.
التحدّي الأكبر أمام المجموعة كان خسارتها مكان اللقاء الأول، وهو فضاء "مانشن" في بيروت، الذي كان يشغل عقاراً من عقارات العاصمة القديمة، واستردّه مالكوه أخّيراً لاستثماره تجارياً، بعد أن كان يشكّل لسنوات ملتقى اجتماعياً وثقافياً تشاركياً، ومساحة متاحة لجميع روّاد المدينة.
في ذلك المكان، تكوّنت نواة المجموعة. ولمدّة عام كامل، احتضن "مانشن" عملية التحضير النظري لتجمّع "بَح"؛ إذ شمل لقاءات وحفلات واجتماعات ودعوات وأدوات مختلفة لبناء هذا المجتمع: "كنا نحاول طوال الوقت ربط التفكير التنظيمي بممارسة اجتماعية معينة وممارسة فنية لإطلاق الموسم صفر من العروض"، يقول عدنان، ويضيف: "فضاء 'مانشن' كان يؤمن احتياجات نفتقدها اليوم، إذ إنه مكان للعروض الفنية وفي الوقت ذاته ملتقى تفاعل ملهم اجتماعياً ومهنياً".
التحديات المالية
أمّا عن التحدّي المالي، فيتابع الفنان بأن التعاونية هي نوع من الرد عليه من خلال فكرة التعاون وتقليل الكلفة وامتلاك أدوات الإنتاج: "هذا يمكننا من الاستمرار بالعمل والحياة في هذه البلد رغم صعوبة المرحلة، خاصة أننا لا نريد الاعتماد حصرا على التمويل، فنحن لدينا شروط على الممولين وهم لديهم شروط علينا".
كل هذا ويبقى التحدّي النفسي تحدّياً أساسياً: "ما نمرّ به جميعا اليوم هو تحدّ حقيقي يجعلنا نتساءل لماذا وكيف نستمر بالعمل ولأي جمهور سواء في قلب الأزمة أو في وضع الاستقرار". على الرغم من ذلك، تستمر "بَح" بالعمل على برمجة عروض جديدة ومشاركتها مع الجمهور، ولعلّ عدنان يجيب عن كل تساؤلات وتحدّيات المرحلة بنبرة من الأمل قائلاً: "بَح هي الصفر الذي تنطلق منه لخلق الكثير، فهي كألعاب الخفّة السحرية، إذ إنّك بإخفائك شيئاً ما تفتح فضاء كبيراً".