ثلّة من فتيات جميلات ينقلن ببهجة وتفاؤل قطع المفروشات إلى بيت جديد، في ضوء نهار صيفي مشرق. ولأجل استراحة الغداء، يطلبن أطباق سلطة من سلسلة مطاعم الوجبات السريعة الشهيرة كيه إف سي (KFC).
من منظور كاميرا مُثبّتة على متنها، تمسح مُسيّرةٌ أجواء مدينة نيويورك الأميركية، لا تلبث أن تُغير على أب وابنه يتوسطان مشهداً خلاباً، انتقالاً إلى مشهدٍ فيه كلا الأبوين يرتادان حفل عشاء، انتهاءً بمشهد الأب منفرداً يلعب الغولف، في حين يرتدي كل ّمن ظهر ملابس من ماركة "دوكرز" (Dockers) للأزياء.
عبر مونتاجٍ سينمائيٍّ مشوّق، تشقّ شاحنة فخمة من نوع "دودج رام" (Dodge Ram) طريقها بثبات مارّةً بسلسلة مقاطع، تنقلها من معالم مدينة عصرية مروراً بجذع شجرة عملاقة في إحدى الغابات الطبيعية، وصولاً إلى الشطآن القاريّة حيث تُمارس رياضة ركوب الأمواج.
ما تشترك به الإعلانات التجارية الثلاثة، هو أولاً أنّ المنتجات أميركية المنشأ، وثانياً، أن الأغنية المصاحبة تعود لسنة 1969 بعنوان "روح كاليفورنيا" (California Soul) بصوت المُغنية الأميركية مارلينا شو (Marlena Shaw) التي رحلت في 19 يناير/ كانون الثاني الحالي.
أما السبب من وراء اعتماد أغنية "روح كاليفورنيا"، فإنما يكمن في تعبيرها عن الهوية الصوتية التي تُقدّم للروح الأميركية في الثقافة الشعبية السائدة، إذ يُسمَع إيقاع البلوز الحيوي المائل جهة صخب الروك أند رول، بقرع طبول الدارمز المُثير وبالضربات المرتدة المُحفّزة.
يضاف إليه تشكيل الانتقالات اللحنية بحسب فواصل خماسية (Pentatonic)، ما يمنح الموسيقى صفة الحياد العاطفي بإبعادها عن قطبي الفرح والحزن، ليبقي عليها متوترة، تبثّ بالمستمع الطاقة والحماسة وتُحرّض عنده الرغبة الفورية بالرقص.
بحُكم أن عمّها كان عازف ترومبيت جاز محترفاً معروفاً، نشأت مارلينا شو في كنف ذائقة أفروأميركية راقية، جعلت من الجاز الرفيع وجهتها الموسيقية التلقائية. بات الروّاد المؤسّسون في حقل جاز البي بوب (Bbop) النخبوي، بالنسبة إليها، من أمثال مايلز ديفيس وديزي غيليسبي، بمثابة قُدوات أثروا بها على طول مشوارها الفني.
لحن غير مقيّد
يبقى مغني الباريتون، آل هيبلر (Al Hibbler) الأكثر تأثيراً بنهجها الأدائي لجهة توظيف الحنجرة وفقاً لطيف موسيقي واسع من الألوان والأساليب. في نسخته من أغنية "لحن غير مقيّد" (Unchained Melody) التي تعود لسنة 1955، وكان ألكس نورث أول من غنّاها، تتجلى الملامح الأدائية التي استلهمتها المغنية الصاعدة. أهمها، الوثب التعبيري بين النغمات من دون توافقٍ مع دوزان اللحن وأحياناً، تعمّد الإفلات منه كليّاً ليقترب الغناء من الكلام غير المُلحّن، مُتجاوزاً الحدود التي تفصل الجاز والبلوز عما سيُعرف فيما بعد بالهيب هوب.
لنزعة الافتراق عن دوزان الأغنية والاقتراب من الصوت الطبيعي (أو غير الموسيقي) أصولٌ ترجع إلى الجاز الآلي، إذ يقوم مرّات أحد النجوم الكبار بالارتجال على آلة موسيقية كالترومبيت أو الساكسفون، ضمن مجال نغمي لا سُلمي غير مألوف، يوحي بالنشاز أو "أصوات البيئة" كالصراخ والقهقهة وأبواق السيارات، فيزيد ذلك من الشحنة التعبيرية للأداء الآلي.
جذبت تلك التقنيات الغنائية المستوردة من الأداء الآلي مارلينا شو إلى كونت بيسّي (Count Basie)، إلى جانب أن الأخير كان عازف بيانو مهمّاً، كان يُعدّ في حينه من كبار قادة فرق الجاز في أميركا، أو ما يُعرف بـ Big Band. لذا، فقد دعاها لتُغني معه مدة أربع سنوات متتالية، اكتسبت خلالها خبرة فنية، دفعت بها إلى أضواء مسرح الجاز نهاية ستينيات القرن الماضي.
تبقى المحطة الأهم، إذ يغدو الموسيقي إثر بلوغها علماً للجاز الجاد، هي التعاقد مع شركة الإنتاج الأكثر تخصصاً بموسيقى الجاز، "بلو نوت" (Blue Note) التي يعزو إليها النقاد تبوّء الجاز خلال النصف الثاني من القرن العشرين مكانةً، جعلت منه الشكل الفني الأميركي الخالص الوحيد والأكثر تمثيلاً للروح الأميركية.
مارلينا شو في مكان ما
وقّعت الفنانة الأميركية سنة 1972 عقدها مع بلو نوت، لتستقل بذلك عن كونت بيسّي، ولتكون أوّل مغنية تتبنّاها الشركة الفنية الرائدة. منذئذ، تتخذ لها خطّاً جازيّاً يُعرف بـStraight-ahead، حيث يقترب، من جهة، من الموسيقية الجماهيرية كالروك، ومن جهة أخرى، يعتمد ما يُسمّى الجاز الحر (Free Jazz) القائم على الارتجال بصفة أساسية.
من بين الأمثلة المبكرة على إصدارات "بلونوت" مطلع السبعينيات، نسخة مارلينا شو من "في مكان ما" (Somewhere)، وهي إحدى أغاني "الميوزيكال" الأشهر في التاريخ من إنتاج مسرح برودواي النيويوركي وبعنوان "قصة الحيّ الغربي" (West side Story) كتب قصائده ستيفين سوندهايم ووضع المؤلف وقائد الأوركسترا ليونارد بيرنشتاين ألحانه، ليُعرض للمرة الأولى سنة 1957 وليحُوّل إلى فيلم سينمائي مرّتين.
على الرغم من أنّ المسرحية الموسيقية استلهمت موسيقى الجاز بشكل أساسي، اتّساقاً مع أحداث القصة التي تجري في بيئة أميركية، إلا أن "الميوزيكال" في تلك الحقبة المبكّرة، لم يزل متأثراً بالموسيقى الكلاسيكية الغربية، وبكتابة موسيقى الأوبرا على وجه التحديد. في حين أتت نسخة مارلينا جازيّة بالكامل، ليس بالمعنى التقليدي التمثيلي، بل بالمعنى الحداثي الإبداعي، وذلك عبر تبنّي أسلوب الجاز الحر (Free Jazz)، أُعيد من خلاله تشكيل الأغنية بشكل كُلّي.
لقد أخرجتها نسخة بلو نوت ومارلينا شو من عباءة الشاعرية الدرامية الأوروبية وأدخلتها حلبة الرقص اللاتيني الأفريقي، لتُضيف إليها خليطاً زاهياً غرائبياً من نبض غيتار الباص الكهربائي، وارتجالات للفلوت تُسمع في الخلفية كتغريدات تُزوّق بها المشهدية الموسيقية، بالإضافة إلى جُمل ديناميكية رشيقة مُصاحبة تؤديها مجموعات الوتريات. أما الغناء، فيكاد أن يكون ارتجالاً محضاً، ابتعاداً عن قُطبيّة الفرح والحزن، واكتفاءً ببث الطاقة والبهجة، بدءاً بالآذان مروراً بالأجساد.