يأتي موعد احتفال هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) بمرور مائة عام على تأسيسها، في وقت تواجه تحديات عدة تلقي بظلالها على مستقبل الهيئة، وتثير مخاوف وتساؤلات حول قدرتها على الاستمرار. ولعلّ التحدّيَين الأساسيَين هما المنافسة الحادّة والتخفيضات الكبيرة في الميزانية.
المصداقية وضغط الحكومة
يستحيل أن نتحدّث عن أعوام "بي بي سي" من دون التطرّق إلى تأثيرها في المجتمع والسياسة داخل بريطانيا وخارجها. نشأت الهيئة على ركام الحرب العالمية الأولى، وقد أسّستها مجموعة من الشركات المصنعة الرائدة لأجهزة الاستقبال اللاسلكية، التي رفضت الدعاية الطاحنة للحرب. لكن ما هي إلا بضع سنوات، حتى تأرجحت مصداقيتها بين الاستجابة لضغط الحكومة والالتزام بالمبادئ التي آمنت بها.
عام 1926، أي بعد أربع سنوات فقط من تأسيسها دخلت البلاد في إضراب عام، ورأى ونستون تشرشل الذي كان مسشتاراً للحكومة في ذلك الوقت، أن الراديو هو الوسيلة الأفضل والأسرع للقضاء على الفوضى. فضغط على رئيس الوزراء ستانلي بالدوين، لشنّ حملة للسيطرة على الإضراب من خلال هيئة الإذاعة البريطانية. وذلك بحسب ما أوردت The Conversation. لكن المدير العام للمؤسسة جون ريث، رفض انصياع BBC لخط الحكومة مصراً على استقلاليتها.
وبالفعل أكدت هيئة الإذاعة البريطانية هذه الاستقلالية في مناسبات عدة، بينما كان لها دور بارز في مناسبات أخرى في تعزيز المصالح البريطانية في الخارج. فتبيّن الأحداث التاريخية، أنّ هذه المؤسّسة كانت طرفاً هاماً، في مراحل حاسمة في سياسة بريطانيا وأوروبا أحياناً. وشهدت مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، تغييرات جوهرية في صنع البرامج والتقارير الحية من مواقع المعارك، وكانت مصدرًا أساسيًا لأخبار الدعاية.
المجتمع والسياسة البريطانية
أثّرت "بي بي سي" في صميم المجتمع البريطاني، حيث ساهمت بعد عشر سنوات من تأسيسها، في عام 1932، في إتاحة الفرصة للملك جورج الخامس، بمخاطبة الإمبراطورية البريطانية، ليكون بذلك أول ملك بريطاني يبث خطابه مباشرة على الراديو. وسمع الملايين من الناس صوت الملك لأول مرة في نفس الوقت.
ولم تبدأ خدمة تلفزيون بي بي سي، سوى في نوفمبر/تشرين الثاني 1936، لتكون أوّل إذاعة في العالم تقدم خدمة تلفزيونية عادية عالية الوضوح. وكانت برامجها مميزة ومتنوّعة بين الدراما والرياضة والرسوم المتحركة. كما كانت اللغة العربية أول لغة أجنبية بثتّها "بي بي سي" في يناير/كانون الثاني 1938. وكان المذيع أحمد كمال سرور، من الإذاعة المصرية أوّل صوت عربي يسمعه الناس عبر موجات أثيرها. ويُقال إنّ تعيينه زاد من شعبيتها بين ليلة وضحاها، لأنّه كان أحد أكثر المقدّمين المحبوبين في العالم العربي.
ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1939، توقفت جميع البرامج بشكل مفاجئ، وحوّلت "بي بي سي" اهتمامها خلال فترة الصراع إلى السياسة، وأصبحت المصدر الأساسي للاخبار، ليس فقط للبريطانيين. ففي 3 سبتمبر/أيلول 1939، أعلن رئيس الوزراء البريطاني، نيفيل تشامبرلين، بدء الحرب أثيرها.
وفي 18 يونيو/حزيران 1940، أطلق الجنرال الفرنسي المنفي شارل ديغول دعوته لمقاومة الغزو الألماني النازي على موجات بث بي بي سي. كذلك، في أوائل يونيو 1944، بثّت رسالة مشفرة تدعو إلى تخريب منشآت السكك الحديدية قبل معركة النورماندي، التي استمرت من يونيو 1944 إلى أغسطس 1944، ونتج منها تحرير الحلفاء لأوروبا الغربية من سيطرة ألمانيا النازية.
عقود بعد الحرب
بعد انتهاء الحرب، كان برنامج "ساعة المرأة" أول عرض إذاعي جريء مخصّص للنساء، تناول جوانب كانت تعدّ حسّاسة في ذلك الزمن. وفي عام 1948، عرضت BBC أول ألعاب أولمبية متلفزة، شاهدتها نحو 100 ألف أسرة بريطانية امتلكت أجهزة تلفزيون. يومها، كان هذا هو البث الخارجي الأكثر تقدمًا من الناحية التقنية الذي تعرضه الهيئة.
وتميّز عقد الخمسينيات من القرن الماضي بموضة التلفزيون، حيث كان البث التلفزيوني لحفل تتويج الملكة إليزابيث الثانية، القوة الدافعة وراء الزيادة الهائلة في مبيعات هذه الأجهزة. وغيّر هذا الحدث تاريخ التلفزيون، حيث شاهده أكثر من 20 مليون شخص في جميع أنحاء أوروبا.
ولم تقتصر خدمة "بي بي سي" على بث البرامج والأخبار والتغطيات، بل تميّزت بدورها الفعال في تسهيل إمكانية الوصول إلى التعليم العالي. ففي يناير 1970، بدأت الجامعة المفتوحة على الهواء، بعد أن وحّدت بي بي سي والجامعة المفتوحة قواهما لإنشاء شراكة طويلة الأمد.
ومع دخول BBC عالم الإنترنت في التسعينيات، اكتسبت أكبر عدد من المشاهدين على الإطلاق من خلال مقابلة بانوراما مع الأميرة ديانا عام 1995. وشاهدها 15 مليون شخص حيث تحدثت ديانا بصراحة عن زواجها من الأمير تشارلز. وفي وقت لاحق من هذا العقد، شاهد 19 مليون شخص جنازة الأميرة، التي كانت في ذلك الوقت أكبر بث خارجي على الإطلاق تعرضه هيئة الإذاعة البريطانية.
اليوم والمستقبل
عام 2022، ورغم النجاح الباهر الذي حقّقته هذه المؤسسة عبر تاريخها الطويل، حتى وصفت بـ عملاق الإعلام العالمي، وبينما لا تزال تستقطب جماهير ضخمة، أحدثها تغطيتها لوفاة الملكة إليزابيث الثانية، تواجه الشبكة ضغوطًا متزايدة من خدمات البث وشركات التواصل الاجتماعي والسياسيين الذين يعتقدون أنّه ينبغي إلغاء رسوم الترخيص، إلى جانب هجر الفئة الشابة لمتابعة الهيئة واستبدالها بمنصات التواصل الاجتماعي.
أرغمت كل هذه الضغوط، بي بي سي، في الشهر الماضي، على الإعلان عن إلغائها 400 وظيفة من قسمها الإذاعي باللغات الأجنبية في محاولة لتوفير 28 مليون جنيه إسترليني. كما استغنت عن الخدمات الإذاعية باللغات العربية والفارسية والهندية والصينية، فضلاً عن تقليص إنتاج البرامج للخدمة الإذاعية باللغة الإنكليزية. وأدّت هذه الخطوة بالتالي إلى التقليل من تأثير بي بي سي في الخارج.
ويرى خبراء أنّ تقليص البرامج غير الإخبارية للخدمة العالمية قد لا يكون سببًا رئيسيًا للقلق، في عصر خدمات البث العالمية ووسائل التواصل الاجتماعي، لأنّه يمكن للجماهير تلقي برامج من مقدمي خدمات من جميع أنحاء العالم. ويُعتقد أنّه في حال التركيز على توفير الأخبار عبر الإنترنت، تضع الخدمة العالمية مواردها في أفضل مكان يمكنها فيه تعزيز القوة البريطانية الناعمة والتأثير الدولي، وبالتالي تحسين احتمالات استمرار وجودها.
برامج "بي بي سي" الأكثر شعبية اليوم
تم اختيار مسلسل " Fools and Horses" باعتباره أكثر مسلسل تلفزيوني محبوب على "بي بي سي"، في تصويت شامل قررته لجنة من خبراء الصناعة وعامة الناس.
وتم إجراء الاستطلاع من قبل The One Show (مجلة تلفزيونية بريطانية وبرنامج محادثة) في بداية عام 2022 والتحضير لاحتفالات "بي بي سي" بعامها المائة. وجاء في المركز الثاني دراما الخيال العلمي طويلة الأمد "Doctor Who" الذي كان جزءًا كبيرًا من ثقافة البوب البريطانية منذ بثه لأول مرة في عام 1963. أمّا المركز الثالث فكان من نصيب "Strictly Come Dancing" الذي يستمر في جذب جماهير ضخمة كل عام. واحتل المركز الرابع المسلسل التلفزيوني "Line Of Duty" الذي يتمحور حول الجريمة والإثارة. وتربّعت في المرتبة الخامسة، الدراما الطويلة "Call The Midwife" التي تعرض الجزء الحادي عشر منها حالياً.
وكانت قد تمت دعوة المشاهدين للتصويت على قائمة مختصرة من 50 عرضاً تشمل أنواعًا وعقودًا وبرامج متعددة.