لا عرف أو موضة في العالم العربي، على مستوى المجلات والمواقع والصحف والدوريات، يتمثّلان بالاحتفاء بمرور قرن، أو نصفه، أو ربعه، بما حقّقته سينما البلاد العربية، من أفلامٍ وكتبٍ ومهرجانات. هذا يُخضع عملية الاحتفاء/ التقييم لشروطٍ علمية ومهنية ونقدية، تدحض كلّ الأفكار والشوائب، التي تظلّ عالقة بهذه السينما، وصُوَرها ونقدها ومُتخيّلها. يُقال هذا بمناسبة مئوية السينما التونسية، المحتفى بها قبل أيام، من دون إشعار أو تذكير أو قراءة أو عرضٍ، من طرف ثقافة البلد وأعيانه. مظاهر الاحتفاء بأعلام السينما العربية ثقافةٌ لم نعرفها بعد، بل لا نزال نهتمّ، في العالم العربي، بأمور تقليدية، يُعتَقد أنّها ستُشكّل ميلاد حداثة سينمائية عربيّة. إذْ بمجرّد اختفاء ظاهرة فنية من الغرب، حتّى نتشبّث بها نحن، باعتبارها موضة سينمائية، فنعتقد أنّنا دخلنا في طور الحداثة، قافزين على مراحل مهمّة، لا بدّ من المرور بها لتحقيق الشرط الحداثي، ومساره الصحيح.
كلّ هذا في وقتٍ يشهد تزايداً في عدد المهرجانات السينمائية، من دون جديد تنظيمي يُذكر، أو حتّى جديد سينمائي يُعوّل عليه. مع أنّ هذا الـ"جديد" يبقى حاضراً في صالاتٍ سينمائية ومهرجانات عالمية، ولا تتعدّى صُوَره أنْ تكون مجرّد مقدّمات مُتواضعة لحداثة سينمائية عربية لم تتحقّق بعد.
رغم مظاهر الاحتفال، التي رافقت مئوية السينما التونسية، في مسرح "أوبرا تونس" في "مدينة الثقافة الشاذلي القليبي" في العاصمة، وما شهدته من اعترافات وتكريمات، لم يكن هذا كافياً. فالهاجس التوثيقي، المُتمثّل في ملفات وكُتب ودراسات وندوات، غائب وغير مُعترف به، في لحظة اختفاء التنظيمات بين عشيّة وضحاها، فيُنسى الحدث/التكريم/المناسبة، كأنّه لم يكُن. فما من كتاب صادر في هذه المناسبة، يُشارك فيه نقّاد ومفكرون وصحافيون وممثلون، يُؤرّخون للسينما التونسية وحداثتها وأعلامها، بوصفها سينما مُؤثّرة في الراهن السينمائي العربي، بما حقّقته من أفلام مهمّة، تستحقّ إعادة مُشاهدةٍ وتفكير.
لم نعُد ننتمي إلى عصورٍ سحيقة، تجعلنا نتذرّع بعدم وجود ورق، أو ميزانية كافية لإنجاز كتالوغات سينمائية، بنصوص وصُوَر. فالمطلوب بلورة أفكار، وتكثيف التواصل مع نقاد ومعنيين بالشأن الفني، علماً أنّ وزارة الشؤون الثقافيّة أشرفت على الحدث بامتياز. تُتيح الندوات والمونوغرافيات إمكانية التعرّف على صورة السينما التونسية في 100 عام، في المتخيّل العربي، وفهم آليات الإنتاج السينمائي بعين خارجية، ورصد إمكانات التأثير والتأثّر بينها وبين نظيراتها المغربية والجزائرية. كما تُمكّن هذه الندوات الوقوف على أفلام نُسيت في الساحة العربية، فتكون أشبه بسفر في سراديب الأفلام، وإعادة تسليط الضوء على بعض قضاياها وإشكالاتها وممثليها، والأهداف التي حقّقتها لتحديث الاجتماع التونسي، بعد المرحلة المهمّة والحاسمة، التي مرّ بها البلد قبل الربيع العربي، وبعده.
غياب الاعتراف بهذه التقاليد السينمائية، في البيئة العربية، من جهاتٍ رسمية، لا يُضمر في طياته سوى الغبن الذي يطبع هذه الثقافة، وأيضاً غياب ثقافة الاعتراف بما قدّمه مخرجون وموزّعون وممثلون ونقاد وكُتّاب سيناريو، لخلق حداثة بصرية، على أساس أنّ السينما ليست ترفاً فنياً أو بذخاً جمالياً، بقدر ما هي آلية حقيقية، تُحدِّث المجتمعات، وتُهذِّب أذواقها، وتُخيِّل قصصها وحكاياتها، وتُثمِّن رأسمالها الرمزي.
ما حصل بمناسبة مئوية السينما التونسية مجرّد تكريمات عادية، يغلب عليها الترفيه، من دون وعي مُسبق بأهمية هذا الحدث التاريخي، الذي يتطلّب، من الجانب المعرفي، إعادة مُشاهدة وتفكير وتأمّل في راهن هذه السينما، على ضوء تاريخها وذاكرتها، ما يُخرجها من عطبٍ ألمّ بها في الآونة الأخيرة، إلى فضاءات أرحب، تجعل إنتاجها في طليعة الأفلام السينمائية العربية، التي تحظى باعتراف عربي ودولي.
ارتباكٌ كهذا لا يُضمِر، في ظاهره، إلا العطب الذي تعانيه الوسائط النقدية في تتبّع هذه المناسبات، وإخراجها من أفقها الترفيهي الاستهلاكي، لتغدو فضاء تُطرح فيه الأسئلة الفكرية القلقة، ويتشعّب فيه خيط الحكي عن أفلامٍ طبعت هذه السينما، وغيرها. هذا أفضل ما يُمكن أنْ تقوم به جهة ثقافية، أو مؤسّسة سينمائية، بشكلٍ يتجاوز ثقافة المهرجانات والصالونات، بعد أنْ غدت عائقاً أمام تقدّم السينما، بسبب هيمنة اللحظي والترفيهي والسياحي على هذه المهرجانات، والخروج بها من ثقافة الأفراح.
ليست المناسبة حفلة ولا عرساً، ليتمّ التركيز على التكريمات، بل إنّه مسارٌ فنّي طويل من المُمارسة السينمائية، التي تستحقّ وقفة نقدية وتثمينية في آنٍ واحد، تُشرّح الأفلام، وتُعيد قراءة الكُتب، وتروي السِيَر الحياتية لكتّاب ومخرجين ومُمثلين، والاعتراف بهم، بشكل رمزيّ من خلال عرض أفلامهم، وجعلها مُمكنة بين كلّ شرائح الاجتماع العربي، على اختلاف اهتماماته ومشاربه وإبداعاته.
مناسبة مئوية السينما التونسية في البلاد العربية تخفي تصدّعاً، غير مُبرّر، في فهم السينما وأهميتها وجماليّاتها وجدواها في حياتنا كبشر. فهل السينما مجرّد فنّ ترفيهي لاحق على انشغالاتنا الحياتية، ما يجعله يُريح أجسادنا، ويُهذّب نفوسنا، ويُطهّر أرواحنا، بحسب التعريف الأرسطي للفنّ؟ أم أنّها فنّ أنطولوجي، يدحض أفكارنا ومُسلّماتنا، ويُزعزع كياننا، ويُحرّر تفكيرنا وأجسادنا، ويجعلنا نتطلّع إلى الواقع برؤيةٍ تأمّلية؟