لويس أرمسترونغ... الموهبة التي صنعت أسطورة

23 يوليو 2021
عُرف أرمسترونغ بشخصيته المرحة واللامبالية (مايكل أوتش/Getty)
+ الخط -

اعتبر نفسه سعيد الحظ بقضائه 18 شهراً في إصلاحية نيو أورلينز؛ ففيها تعلم الصبي الأسمر العزف على آلتي الترومبيت والكورنيت. قبلها، كان لا يفعل شيئاً أبعد من التسكع في الشوارع، مثل كل صبية حيه الفقير، ليُقبض عليه إثر إطلاقه النار في الشارع ابتهاجاً برأس السنة. لكن ما صنع منه أسطورة بعدها، لم يكن حظه السعيد، بقدر ما كان موهبته العظيمة.

بعد خروجه من الإصلاحية، قضى لويس الصغير ساعات طوالا في منزله الموجود في أفقر أحياء المدينة الأميركية، نيو أورلينز، ليتدرب. ما كان أحد يشاهده إلا وهو ممسك بالكورنيت. في تلك الأثناء، لم يمل من الاستماع إلى معلمه الأول وملهمه، عازف الجاز جوزيف ناثان، المعروف بالملك أوليفر.

انفصل لويس أرمسترونغ (1901 ــ 1971) عن عالم الشارع الذي لا يعده بأكثر من أن يكون عضواً في إحدى عصابات الحي، ليُطارد في حماسة الفرق الموسيقية، ويحترف العزف فيها. بعد سنوات، سيلتقي ملهمه "الملك أوليفر" ليعمل في فرقته. وعندما يرتحل الأخير إلى شيكاغو، يحل لويس محله. لكنه، في تلك الفترة، كان دائم التطواف، فانتقل إلى فرقة أخرى، استمر معها حتى عام 1921، ليلتحق مجدداً بأوليفر في شيكاغو، عام 1922، ويقدم معه أول تسجيلاته كعضو في الفرقة. سافر لويس بعدها إلى نيويورك لمدة عام، ثم عاد إلى شيكاغو، وتعاقد مع استديوهات "هوت فايف" و"هوت سيفن"، لتقديم سلسلة من التسجيلات (1925 ــ 1928) وضعته على خارطة نجوم الجاز.

بحلول عام 1927، طوقت شهرة لويس أرمسترونغ الولايات المتحدة، ليؤسس فرقته الخاصة، ويقدم فيها أول تسجيل صوتي له، بعنوان "رجل الزبدة والبيض" (Big Butter And Egg Man). عمل في التوقيت نفسه عازفاً منفرداً في فرقة كارول ديكرسون في شيكاغو (1928)، ثم تولى لاحقاً قيادة الفرقة. في هذه الأثناء، شارك مع أوركسترا شيكاغو في مسرحية برودواي بأغنية Ain't Misbehavin، لتصنف وقتها واحدة من أفضل عشر أغان في الولايات المتحدة.

مع دخول عقد الثلاثينيات، بلغ أرمسترونغ أوج تألقه، فمثلما يشير عدد من مؤرخي الجاز إلى أن تلك المرحلة شهدت أهم أعماله وأكثرها تميزاً، منها: "جسد وروح" (1930)، و"عندما يحين وقت النوم في الجنوب" (1931)، و"هذا هو منزلي" (1932)، و"هوبو لا يمكنك ركوب هذا القطار" (1933)، و"أنا في حالة مزاجية للحب" (1935)، و"اللحن رقم واحد" (1937)، و"عندما يذهب القديسون" (1939).
ما صنعه أرمسترونغ في تلك الفترة نافس في جِدّته الأصوات التي خرجت أول مرة من ذلك الأفريقي المستعبد في الحقول الذي يستعين بالنغم على العمل الشاق، فلا تفتر حماسته رغم الألم والمعاناة.

التطويع السلس للإيقاع، الارتجال المتقن، الإيقاعات الأفريقية والإسبانية التي أسبغها على موسيقى الجاز، كل ذلك، أهّل إنتاج أرمسترونغ كي يمسي من مدارس الجاز حينها، بمثابة المايسترو الذي تتعلق الأبصار بعصاه، فلا نغمة تعزف إلا بإشارة منها.
جمع أرمسترونغ في جعبته الجاز والبلوز، واستبدل الـ "ستكاتو" (تقطيع الأصوات وانفصالها عن بعضها بسكتات توازي نصف قيمتها الزمنية)، بالــ "ليغاتو" (عزف النغمات المختلفة بصورة متصلة)، وأظهر قدرة إبداعية في التلوين الموسيقي، ثم اندفع لتوزيع هداياه الموسيقية على أهل الجاز، ليس في الولايات المتحدة، وحدها بل في العالم أجمع.

لم يشأ أرمسترونغ تفويت الثلاثينيات من دون أن يعلن نفسه مغنياً أيضاً. فعلى خلاف السائد في الأصوات الغنائية المعتمدة وقتها، والتي كانت تنساب في نعومة وصفاء عبر أثير الإذاعة، صدم أرمسترونغ آذان الأميركيين بصوته الأجش، إلا أن الصدمة كانت مبهجة ومطربة إلى أبعد حد، كما أشاع لوناً غنائياً، يُعرف بـ "غناء السكات"، فأثناء تسجيله إحدى أغنياته، نسي الكلمات، ليرتجل أصواتاً منغمة بدلاً منها، ليصبح هذا الأسلوب شائعاً.

أمسى أرمسترونغ مطلوباً أكثر في الإذاعة والتلفزيون، ورشحه تألقه مغنياً إلى المشاركة في عدد من الأعمال السينمائية، حيث ظهر في السينما لأول مرة في فيلم "اللهب سابقاً" (1931). في العام نفسه، سجل واحدة من أنجح أغانيه وأكثرها شعبية، هي "غبار النجوم"، وشارك أيضاً في فيلم "بنسات من الجنة" (1931) الذي أبرز شخصيته البسيطة والمرحة بجانب عزفه وغنائه المميزين. ومن بين الأفلام التي خاض تجربتها كذلك، "القطاع" (1951)، أتبعه بفيلمي "المجتمع الراقي" (1956) و"خمسة بنسات" (1959)، ثم فيلم "البلوز الفرنسي" (1961)، وفيلم "مرحبا دولي"، مع المغنية والممثلة الشهيرة باربرا سترايساند (1969)، وإن كان قد تعرض لهجوم ونقد من البعض؛ بسبب ما وصفوه بلامبالاته أن يُقدم في الأفلام صورة الأسود المهرج الذي يسلي الرجل الأبيض.

كأميركي من أصل أفريقي، لم يُستثنَ أرمسترونغ من الاضطهاد والمضايقات، خاصة في فترة الثلاثينيات والأربعينيات، فتعرض أكثر من مرة إلى تحرشات الشرطة، وقبض عليه في إحداها في محطة قطار ممفيس، إثر اشتباه عدد من الركاب به وبفرقته بسبب فخامة بدلاتهم، وطارده رجال العصابات في شيكاغو، ليضطر إلى مغادرة المدينة. وفي أول ليلة له في لندن، أثناء إحدى جولاته (1932)، ظل يتسكع في الشوارع حتى الخامسة فجراً، بسبب رفض فنادق المدينة إقامته فيها.

لهذا، لم يكن غريباً ـ رغم عزوفه عن الإدلاء برأيه في أي قضية عامة ـ أن يكون مناهضاً للتمييز العنصري، وما كان يتعرض له أطفال المدارس خاصة، حينما أقرت الحكومات الفيدرالية في ولايات الجنوب، في الخمسينيات، قوانين تستهدف الفصل العنصري بين العرقيات المختلفة في الأماكن العامة.

دان أسطورة الجاز بقوة ما وقع لمجموعة من الطلاب الأميركيين الأفارقة (1957) لدى محاولتهم الانتظام في الفصول الدراسية في إحدى المدارس المركزية المخصصة للبيض، حيث منع الحرس الوطني طالبة أفريقية أميركية من دخول المدرسة، وتناقلت الصحف تصريحات الموسيقي الغاضبة التي قال في إحداها: "لدي كل الحق في تفجير رأسي بسبب الظلم".

لكن هذا لم يمنع أرمسترونغ من الاستجابة إلى طلب وزارة الخارجية عندما اقترحت عليه ـبعد الحرب العالمية الثانيةـ الذهاب في جولة في القارة الأفريقية ومنطقة الشرق الأوسط، لتحسين صورة الولايات المتحدة وتفنيد مزاعم السوفييت وقتها حول العنصرية في أميركا. كان أرمسترونغ معروفاً بالفعل باسم "السفير ساتش"، بسبب حرصه على القيام بجولات في المناطق النائية حول العالم، لكنه في هذه الجولة أمسى دبلوماسياً ثقافياً رسمياً.

في غانا، أحيا أرمسترونغ أكبر تظاهرة فنية شهدتها البلاد. حضر حفله أكثر من 100 ألف شخص. وفي الكونغو، حمله رجال القبائل وأجلسوه على عرش ضخم. وعندما زار إحدى المقاطعات، وكانت تشهد حرباً أهلية، اتفق طرفاها على هدنة يوم واحد لمشاهدة أرمسترونغ يلعب. كما زار مصر حينها وله صورة شهيرة وهو يعزف على البوق أمام أبو الهول.

لويس أرمسترونغ وزوجته في الجيزة (Getty)
لويس أرمسترونغ وزوجته في الجيزة (Getty)

ككثير من الموسيقيين في ذلك الوقت، وربما الآن أيضاً، كان أرمسترونغ مولعاً بالماريجوانا، ووصفها أكثر من مرة بين أصدقائه أنها "أفضل ألف مرة من الويسكي"، وإن تسببت في إلقاء القبض عليه حينما ضبطته الشرطة يدخنها في كاليفورنيا (1931)، غير أن هذا لم يردعه عن تدخينها بانتظام لبقية حياته، زاعماً أنها تجعله ينسى "كل الأشياء السيئة التي تحدث للزنجي".

ما تكبده بسبب شفتيه كان من بين الأشياء السيئة التي تعرض لها، لكن ليس لكونه زنجياً، إنما بسبب جدول جولاته المزدحم دائماً وطريقة عزفه على البوق، إذ عانى لوي من تشققات بالغة في الشفاه. كانت شفتاه تبدو "قاسية مثل قطعة خشب"، في ما يُعرف اليوم بمتلازمة ساتشو أو متلازمة لويس أرمسترونغ.

رغم آلامه أطلق عازف الترومبيت الأشهر عشرات الأغاني الناجحة والشهيرة على مستوى العالم، لكن للمفارقة فإن أكثر أغانيه انتشارا "يا له من عالم رائع" التي سجلها عام 1967 قبل وفاته بأربع سنوات فشلت في الولايات المتحدة فشلاً ذريعاً لدى إصدارها وتوارت خلف عدد كبير من مقطوعاته المهمة، إلا أنها عادت للظهور واحتلت صدارة أغاني أسطورة الجاز سنة 1987 عندما أدمجت بالموسيقى التصويرية لفيلم "صباح الخير فيتنام" بطولة روبن ويليامز.

حتى آخر يوم في عمره نشر أرمسترونغ البهجة والمرح والحيوية أينما حل، وألهم بألحانه وغنائه الموسيقيين، فوهبهم إيقاعات أكثر جاذبية وحيوية. فعل كل شيء بالبوق بحيث لم يعد بإمكان أحد أن "يلعب عليه شيئا لم يقم به لويس"، وصفه بينغ كروسبي، الممثل والمغني الأميركي صاحب التسجيلات الأكثر مبيعا في القرن العشرين، بأنه "بداية ونهاية الموسيقى في أميركا".

تفرد ألحانه، لعبه بالبوق وبأحباله الصوتية، أداؤه الحركي، تعبيرات وجهه المرحة والمحببة، كل ذلك كفل له حضورا على المسرح لا ينافسه فيه أحد. عاش لوي حياة مفعمة بالتفاؤل والنشاط، ولم يتخل عن حركته الدؤوبة حتى النهاية، ليكتب في مقدمة تسجيله "إنه عالم رائع" كاشفاً عن سر حيوية بثها في أوصال عشاقه في كل مكان: كل ما أريد قوله، انظروا أي عالم رائع سيكون عالمنا إذا أعطيناه فرصة... إذا أعطيناه الحب، هذا هو السر".

المساهمون