تسبّبت الانتخابات الأميركية عام 2016 بصداعٍ لاحق للشركات التكنولوجية العملاقة، تحديداً الأميركية منها. بعد فوز دونالد ترامب بالسباق إلى البيت الأبيض حينها، تكشّفت فضائح تتعلّق باستغلال هذه المنصّات للاستقطاب السياسي وتعميق الانقسام وتأجيجه بين الأميركيين، بالإضافة إلى قرصنة وتلاعب.
لا تزال تلك الشركات تعاني من تبعات ذلك الاستغلال الذي كانت تعلم بخيوطه دون أن تتحرّك حتى اليوم. ومع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأميركية في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، تحاول الشركات التكنولوجية أن ترسي سياسات جديدة تتعلق بالانتخابات والتضليل والأخبار الكاذبة والديمقراطية، لتجنّب نفسها الوقوع في ذات المتاهة مجدداً، خصوصاً أنّ الاستقطاب الحادّ في الولايات المتحدة يهدد بعنف على الأرض، تكون ساحته الأولى مواقع التواصل الاجتماعي.
يشعل التصويت بالبريد جدلاً واسعاً في الولايات المتحدة حالياً، إذ يروّج ترامب أنّه سيضلل الانتخابات، ويرفضه، فيما تنشر شركات التواصل توضيحات على منشوراتها لتؤكد أنّ تلك المزاعم لا أساس لها من الصحة. لم يكتفِ ترامب بهذا الجدل، بل رفض تأكيد أنّه سيسلّم السلطة رسمياً في حال خسارته الانتخابات، وملمحاً لهذا "التزوير" نفسه. هذا تحديداً يدخل في صلب "الكابوس" الذي تعيشه الشركات التكنولوجيّة، إذ تخاف من استغلال الوقت الفاصل بين انتهاء التصويت والإعلان عن النتائج لتأجيج الانقسام ونشر الفوضى والعنف.
وتقول هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) إنّه "عادةً ما تستغرق الفترة بين إغلاق صناديق الاقتراع والنتيجة المعلنة بضع ساعات. لكن هذه المرة من المحتمل أن تستغرق أيامًا، وربما أسابيع. إذ سوف تستغرق معالجة ملايين الأصوات البريدية وقتًا". وتضيف "تعتقد شركات وسائل التواصل الاجتماعي أن هذه الفترة قد تدفع الولايات المتحدة إلى حافة الهاوية. فإذا أعلن كل من دونالد ترامب وجو بايدن عن فوزهما، هناك مخاوف من حدوث عنف بين المجتمعات المستقطبة بالفعل في الولايات المتحدة، وكل هذا يمكن أن يتم على وسائل التواصل الاجتماعي".
وقبل أسابيع، أعلن رئيس "فيسبوك"، مارك زوكربيرغ، عن قلقه، قائلاً "مع الانقسام الشديد في أمتنا، واحتمال أن تستغرق نتائج الانتخابات أيامًا أو حتى أسابيع حتى يتم الانتهاء منها، قد يكون هناك خطر متزايد بحدوث اضطرابات مدنية في جميع أنحاء البلاد".
ما يثير قلق رؤساء شركات التكنولوجيا هو سيناريو واحد: من المتوقع أن يتم ترجيح الأصوات البريدية لصالح المرشح الديمقراطي، بينما من المتوقع أن التصويت في صندوق الاقتراع سيصب لصالح الجمهوري، الرئيس الحالي. وذلك لأن ترامب طلب من مؤيديه التصويت شخصيًا، إذ يقول إن عملية التصويت بالبريد مزورة (لا يوجد دليل على ذلك). على النقيض من ذلك، لا يواجه الديمقراطيون مثل هذه المشكلة في تشجيع التصويت عبر البريد. ونتيجةً لذلك، أصبحت هاتان الطريقتان في التصويت منحرفتين سياسيًا، وهذا يمكن أن يخلق ما يُطلق عليه "السراب الأحمر" ليلة الاقتراع و"التحول الأزرق" في الأيام التالية. في هذا السيناريو، سيفوز ترامب في يوم الانتخابات لأنه سيتم احتساب أصوات صناديق الاقتراع. ولكن بعد ذلك، إذا ارتفعت نسبة الأصوات البريدية ببطء، قد يتغلّب بايدن على تقدم ترامب.
كلّ ما قاله ترامب حول كلّ ذلك يشير إلى أنه سيعلن النصر، بعدما رفض الالتزام بالتداول السلمي للسلطة. وفي حال قام بذلك، من المرجّح أن يحصل هذا عبر "تويتر" أو "فيسبوك". لذا، قالت المنصّات إنّها ستمنع الإعلان عن الفوز قبل ظهور النتائج النهائية الرسمية. وقال "تويتر" إنه "سيقوم بإزالة المعلومات المضللة التي تهدف إلى تقويض ثقة الجمهور في الانتخابات... على سبيل المثال، ادعاء الفوز قبل المصادقة على نتائج الانتخابات". وقالت شركة "فيسبوك" إنها سترفض إعلانات الحملات السياسية الأميركية التي تزعم النصر قبل إعلان النتائج، وستزيل المعلومات المضللة حول التصويت. ويوم الجمعة الماضي، أفاد الموقع الإخباري "أكسيوس" بأن "غوغل" ستمنع الإعلانات الانتخابية بعد يوم الانتخابات كرد فعل على القلق نفسه.
هذا ما ينقل الشركات للاحتمال الآخر، وهو، بحسب "بي بي سي"، أن يدّعي ترامب النصر، مع منعه من نشر ذلك على مواقع التواصل الاجتماعي.
تعدّ هذه واحدة من أخطر اللحظات التي واجهتها أي من شركات التواصل الاجتماعي، إذ سيتعيّن عليها فرض رقابة على آلاف المنشورات المشحونة سياسياً، فيما قد يتعهّد المرشحون الرئاسيون بالانتقام منها بسبب تلك القرارات أو الاختلاف حول ما يجب أن يبقى أو يحذف. وسعى ترامب سابقاً إلى إلغاء المادة 230، التي تحمي شركات وسائل التواصل الاجتماعي من أن تكون مسؤولة عن المحتوى الذي ينشره الناس.
أما في حال رفض بايدن الاعتراف بالهزيمة، أو ذهب بعيداً في الادعاء بأن الجمهوريين يحاولون سرقة الانتخابات، فتشير "بي بي سي" إلى احتمال أن يطالب الديمقراطيون بتقسيم الشركات التكنولوجيّة، إذ إنّ بعضهم هاجم سابقاً السلطة التي تتمتع بها هذه الشركات.
تقول "بي بي سي": "قد لا يحدث هذا. يمكن أن يفوز ترامب بأغلبية ساحقة ويقبل بايدن الهزيمة على الفور. أو يمكن أن يفوز بايدن بالتصويت الشعبي في نفس الليلة، ويمكن أن يرحل ترامب بلطف. لكنّ كل الأدلة حتى الآن تشير إلى أن ذلك لن يحدث. وهذا قد يعني مشاكل خطيرة ليس فقط للولايات المتحدة الأميركيّة، ولكن لمستقبل وسائل التواصل الاجتماعي نفسها".